اتسمت ظاهرة الخصومات البينية، المتوارثة والمستحدثة لدى الأنظمة العربية، بطابع بات سمة نمطية، من جهة تكرارها سواء من حيث الشكل أو المحتوى. يتجلى ذلك بوضوح حين تبدأ حالة من القطيعة بين نظامين أو حكومتين عربيتين، فإن كلا الطرفين لا يتردد في الإفصاح والجهر عن أسباب القطيعة، ولكن في الوقت ذاته، عندما تنتهي الخصومة، فهذا لا يعني زوال أسباب القطيعة.
ربما يحضر مبرر وحيد – وربما أيضا يتحول إلى تبرير نمطي – ويتجسد بإيثار المصلحة العربية العليا والحرص على التعاون العربي وتحصين الصفوف لمواجهة العدو الأكبر، وما إلى ذلك من مقولات بات يعرفها الجميع.
كيف يمكن الحديث عن الأمن القومي العربي في حين أن الجميع يدرك – بما في ذلك الحكومات العربية ذاتها – أن العرب ليس لديهم منظومة أمن قومي بالأصل.
بين القطيعة والمصالحة وترويج الوهم
ربما تكون القطيعة التي اتخذتها معظم الأنظمة العربية من مصر إثر توقيعها اتفاقية (كامب ديفيد 1977) مع الكيان الصهيوني، هي القطيعة الأوسع والأكثر شموليةً في تاريخ العلاقات بين الحكومات العربية.
ولكن، معظم أطراف القطيعة عادوا عن قرارهم وأعادوا علاقاتهم مع الحكومة المصرية، وإنْ بسياقات مختلفة. علمًا أن أسباب القطيعة ما تزال قائمة، وحكومة مصر ما تزال ملتزمة باتفاقية التسوية مع إسرائيل، إلّا أن عودة العلاقات بين الأطراف المتخاصمة كانت مشفوعة كما ذكرت قبل قليل، بالحرص على المصلحة القومية العليا والتعاون العربي وتحصين صفوف الأمة. علماً أن التبرير المذكور بات شديد التهافت إلى درجة السذاجة، إذ كيف يمكن الحديث عن الحفاظ على تعزيز أواصر التعاون العربي المشترك إن لم يكن شيء من هذا التعاون موجودًا بالأصل؟
وكذلك، كيف يمكن الحديث عن الأمن القومي العربي في حين أن الجميع يدرك – بما في ذلك الحكومات العربية ذاتها – أن العرب ليس لديهم منظومة أمن قومي بالأصل.
وبناءً على هذا الإرث من الجهر بأسباب الخصومة، ولكن في الوقت ذاته الاكتفاء بتبرير معتاد عن دواعي المصالحة، يمكن النظر إلى العديد من المساعي العربية التي تبديها بعض الأنظمة لتطبيع العلاقة مع نظام بشار الأسد.
لقد بدأ الأردن بإطلاق المبادرة الأولى عام 2021 تحت شعار (خطوة مقابل خطوة)، ثم تلتها دعوة رأس النظام إلى قمة جدّة في أيار 2023. خلال تلك القمة، تم تكريس العودة الرسمية لنظام الأسد إلى مجلس الجامعة العربية، وعلى إثر ذلك تشكلت لجنة الاتصال العربية المكلفة بالتواصل مع نظام الأسد لمتابعة بعض الأمور ذات الصلة المباشرة بعودة الأسد، ومنها مسألة إعادة اللاجئين وتصدير الكبتاغون وقضايا المعتقلين والتسوية السياسية. إلّا أنه حتى الوقت الحاضر ما يزال الفشل هو الحصاد الوحيد للجنة التواصل، إذ لم يفلح العرب في انتزاع أي موقف من الأسد يستجيب لمصالح الدول العربية الأخرى.
بناءً على النتائج المُحبطة، ذهبت معظم التوقعات إلى أن قطار التطبيع قد وصل إلى طريق مسدود، بل ربما ذهب البعض إلى احتمال صدور ردود أفعال مباغتة لنظام دمشق، وخاصة من المملكة العربية السعودية باعتبارها العرّاب الرئيس لعودة بشار الأسد إلى الحاضنة العربية.
ربما استند أصحاب هذا الرأي إلى المواقف الحاسمة للرياض من نظام دمشق – على الأقل إعلامياً ودبلوماسياً – إذ لا يزال صدى العبارات الحاسمة التي أطلقها سفير السعودية لدى الأمم المتحدة في الجلسة الثالثة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2021، موجهاً كلامه للنظام السوري: (لا تصدقوهم إن قالوا إن الحرب انتهت في سوريا، لا تصدقوهم إن وقف زعيمهم فوق هرم من جماجم الأبرياء مدّعياً النصر العظيم، لا تصدّقوهم إن قالوا إنهم يحاربون الإرهاب في المنطقة، وهم أول من فتح للإرهاب أوسع الأبواب عندما أدخلوا إلى بلادهم حزب الله الإرهابي).
ولكن، يبدو أن الترجمة الفعلية لتلك النبرة الحادة والحاسمة للسفير السعودي قد جاءت حاملةً نقيض ما هو مُعلن، بل ربما جسّدت مبادرة السعودية بافتتاح رسمي لسفارتها في دمشق الأسبوع الماضي، وتسمية فيصل بن سعود المجفل سفيراً لها في دمشق إصراراً سعودياً نحو التطبيع مع نظام دمشق، بغض النظر عن سلوك السلطة السورية وطبيعة تعاطيها مع ما تتطلع إليه السعودية وسواها من الدول العربية الزاحفة تجاه الأسد. يمكن التأكيد على أن مجمل الإشكالات القديمة والحديثة، والتي كانت تجسّد خلافاً مستمراً بين دمشق والرياض ما تزال قائمة دون التوصل إلى أية تفاهمات مشتركة، الأمر الذي يدعو للتساؤل بقوة: ما هي دوافع إصرار الرياض على محاباة الأسد وهو بكامل عنجهيته وتعاليه على الوقائع وخطابه الاستعلائي تجاه أقرانه، ليس السعوديين فحسب، بل مجمل العواصم العربية التي تُشرع أذرعها لاحتضانه؟
أي حديث عن التطبيع العربي مع الأسد عموماً، والسعودي على وجه الخصوص، ينبغي ألّا يكون مفارقاً للمصالح الأمنية السلطوية بالدرجة الأولى.
إيران وأميركا والحضور التركي
قد لا نأتي بجديد حين نكرر التأكيد على أن استجابة الأنظمة العربية على العموم للمتغيرات أو المستجدّات لا تخضع لمعايير تنبثق من مصالحها الوطنية أو المصالح المباشرة لشعوبها، بقدر ما تنبثق من رضوخها واستجابتها لحاجاتها السلطوية الأمنية على وجه التحديد من جهة، ولموازين القوى الإقليمية والدولية باعتبارها المؤثّر الأساسي على أمن سلطتها من جهة أخرى.
انطلاقاً من ذلك، لا يمكن للرياض أن تتجاهل أمرين يمكن أن يكونا الحافز الأقوى لاستداراتها السياسية. يتعلق الأمر الأول بالاستراتيجية الأميركية حيال إيران، والتي باتت تشير بوضوح إلى إصرار الإدارة الأميركية على مبدأ احتواء جموح إيران نحو التوسع دون الإجهاز عليها. هذا يعني ضمناً الإقرار بأن إيران قوة نافذة في المنطقة ويجب الإقرار بمصالحها الإقليمية. بناءً على ذلك، على السعودية ودول الخليج معاً أن يدركوا أن السبيل نحو تحاشي الخطر الإيراني هو الذهاب إلى طهران وملحقاتها وأذرعها وليس إلى واشنطن.
يتعلق الأمر الثاني بالخطوات التركية المتلاحقة والدعوات التي تطلقها أنقرة تباعاً للتطبيع مع الأسد، وذلك بالتنسيق مع روسيا. ربما خشيت الرياض من أن التطبيع التركي مع الأسد، إن حصل، فربما يتيح لتركيا الاستفراد بمشاريع إعادة الإعمار، وبالتالي وضع يدها على مجمل مفاصل الاقتصاد السوري في المستقبل المنظور. الأمر الذي يجعل الحضور السعودي في دمشق غير ذي فاعلية، وهو ما لم تعتد عليه الرياض سابقاً.
لعل أي حديث عن التطبيع العربي مع الأسد عموماً، والسعودي على وجه الخصوص، ينبغي ألّا يكون مفارقاً للمصالح الأمنية السلطوية بالدرجة الأولى، وتلك المصالح لا ترتبط بقضايا الشعوب العادلة ولا القضايا الإنسانية كقضية اللاجئين والمعتقلين. بل يمكن القول إن المصالح الأمنية للأنظمة العربية توجب عليها التعاطي مع الأسد بنسخته الأصلية دون أي تعديل.