مع وصول على لاريجاني – كبير مستشاري الخامنئي وعضو مجمع تشخيص النظام في إيران – إلى دمشق في الرابع عشر من الشهر الجاري، واجتماعه برأس النظام، يُخيّل للكثير من متابعي الشأن السوري أن بشار الأسد لن يتردّد بينه وبين نفسه في استحضار عبارة الملك الضلّيل في ساحق الأيام: (اليوم خمر وغداً أمر)، إذ من الراجح أن لاريجاني لا يبغي من وراء زيارته تجديد الدعم المعنوي لنظام دمشق، كما ولن يهدف إلى تقديم الدعم للمقاومة في فلسطين ولبنان كما ينضح من تصريحاته، فتلك أمور لا تستوجب زيارةً من مسؤول رفيع إلى كائن لا يرى فيه الزائر سوى مأمور وضيع.
ولكن ربما السيرورة المنطقية للأحداث تؤكّد أن الحضن الإيراني، الذي وفّر معظم أسباب البقاء والحصانة لديمومة نظام دمشق منذ عام 2011 وحتى الآن، يوجب عليه اليوم أن يكون أميناً ووفيّاً لكل دفقة دفء حظي بها من بركات الولي الفقيه. ولئن أبدتْ طهران تفهّمها لنأي الأسد بنفسه عن كل تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى حزب الله، إلّا أن تفهّمها لهذا النأي لا يذهب إلى درجة مغادرة الأسد لتخوم محورها وتنصّله التدريجي من مواجهة العديد من الاستحقاقات التي توجبها المواجهة الراهنة بين إسرائيل وإيران.
تلاشي مفهوم (تخادم المصالح) بين إيران وإسرائيل قد أفضى إلى نشوء استراتيجيات جديدة للمواجهة بين الأطراف المتنازعة.
بين العقوق وردّ الجميل، الخيار المؤلم
واقع الحال يؤكّد أن الأسد لا تكمن مشكلته في عدم قدرته على ردّ الجميل لطهران، فهو قد سبق وأتاح لهم البلاد السورية من درعا وحتى البوكمال لتكون ميداناً للميليشيات الطائفية التي باتت تتحكّم بمصائر السوريين وأرزاقهم وأمنهم، فضلاً عن استحكام الإيراني بمعظم المفاصل الاقتصادية والأمنية في البلاد. ولكن المأزق الذي يواجهه هو أنه بات مُطالَباً بردّ الجميل لأكثر من طرف، وفي وقت واحدٍ، ذلك أن الذين أسهموا بالحفاظ على نظام الأسد وحالت مواقفهم دون زواله هم كثر، بدءًا من إسرائيل وواشنطن وروسيا وإيران. فهؤلاء جميعاً اقتضت مصالحهم في ظرف تاريخي محدد على أن يبقى الأسد في السلطة، وذلك على الرغم من التبعات الكارثية لبقائه والتي أسست لمأساة السوريين الممتدة منذ ثلاث عشرة سنة. ولكن التقاء المصالح الذي جمع في يوم ما، بين الأطراف التي ربما بدت متناقضة الأهداف، يوشك اليوم على الانتهاء.
لقد كانت الأمور بخير – بالنسبة إلى الأسد – حين كانت إسرائيل تكتفي باستهداف أذرع إيران في سوريا عندما تتجاوز ما هو متفق عليه فحسب، فضلاً عن أن الاستهداف الإسرائيلي كان يجري بتنسيق مع روسيا صاحبة القوة المهيمنة على الأجواء السورية. ولكن تلاشي مفهوم (تخادم المصالح) بين إيران وإسرائيل قد أفضى إلى نشوء استراتيجيات جديدة للمواجهة بين الأطراف المتنازعة، الأمر الذي يجعل من استراتيجية الأسد القديمة، القائمة على مراعاة التوازنات بين الأطراف الدولية والإقليمية والاستجابة لتلبية المصالح المتنوعة، خاليةً من أي جدوى. بل ربما بات مطالباً أن يكون أكثر حسماً، إن لم يكن بأفعاله، فعلى الأقل بأقواله، في تحديد مواقفه، ذلك أن المواجهات بين طهران وتل أبيب دخلت في مرحلة جديدة قد يصعب التكهّن بنهاياتها في ظل المعطيات الراهنة.
وهذا ما يجعل الأسد يقف مذعوراً بين خيارين: الوفاء للوصيّ الإيراني – وهو الخيار الذي يجعله أكثر انسجاماً مع ذاته – إلّا أنّه – في الوقت ذاته – يجعله في حالة من (العقوق) حيال إسرائيل التي شاطرت إيران الرأي فيما سبق حول ضرورة بقائه في السلطة. وكلاهما خيارٌ شديد المرارة، كونه في الحالتين يوجب على الأسد الاستعداد للمواجهة التي لا يملك مقوّماتها، فإلى أيّ جانبيه يميل؟
إن التطبيع مع تركيا في الوقت الراهن ربما ينعشه اقتصادياً ويعزّز كيانه أمنياً، ولكن لن يقيه الخطر الإسرائيلي ولن يكون بمقدوره انتشاله الآمن من القيد الإيراني.
في المخرجات المُتاحة
يمكن الذهاب إلى أن الحيّز الحَرِج للأسد يجعله يقف أمام ثلاث أجندات إقليمية: تتمثل الأولى بالمشروع الإيراني الذي وصل – مع انتهاء مفهوم التخادم بينه وبين إسرائيل – إلى مفترق طرق، أو إلى عقدة بالغة الصعوبة. ووفقاً للعلاقة التاريخية لنظام دمشق مع طهران، والتي تحولت إلى علاقة عضوية في عهد الأسد الوريث، فإن معظم القرائن تحيل إلى استمرار الأسد بالتماهي مع سياسات إيران على الرغم من إدراكه بأنها باتت عبئاً عليه.
وبالتالي، فإن استمرار انضوائه تحت المظلة الإيرانية هو خيار لا ينبثق عن قناعات ذات صلة بمصلحة سوريا كدولة مع طهران، بل بمصالح ضيّقة ربما تخص أمنه الشخصي وأمن حاشيته المقربين، وذلك نظراً للقبضة الإيرانية التي باتت تسيطر على العديد من مفاصل الجيش والاقتصاد والجغرافيا. ومن هنا يبدو أن انفكاك الأسد عن إيران ربما لم يعد يقلّ خطورةً – وفقاً لحسابات الأسد نفسه – عن استمراره بالتبعية لها.
أمّا الأجندة الثانية (الإسرائيلية) المحميّة أميركياً فلا تحوز على ثقة الأسد على الرغم من إدراكه لقوتها ونفوذها الكبير. ولعل العقوبات الأميركية المفروضة على نظامه، والتي اتخذت طابعاً قانونياً، تجعله يعدّها قنابل موقوتة، أو أوراق ضغط يمكن استخدامها في أي وقت. فضلاً عن العديد من الملفات القضائية التي تطالب بمحاسبته كمرتكب لجرائم إبادة بحق الإنسانية. أمّا من جهة إسرائيل، فلا يبدو أن بشار الأسد بات عائقاً أمام سياساتها في المنطقة، فما أرادته، وتريده، قد حصلت عليه دون تقديم تنازلات ذات أهمية. وبالتالي، لن يكون الأسد في جميع الحالات موضع اهتمام من إسرائيل، لا على المستوى الأمني ولا السياسي.
ويبقى الحديث عن الأجندة الإقليمية الثالثة متجدّداً مرةً تلو الأخرى، ولكن من طرف واحد. ونعني بذلك المبادرة التركية التي ما تزال منذ شهر آب من العام 2022 تتردّد أصداؤها دون تفاعل جدّي من نظام دمشق. إلّا أن طرحها مجدّداً بإلحاح تركي، يتداخل فيه الترغيب والترهيب معاً، فإنما يحيل إلى قناعة تركية بأن الوباء الذي ربما يحلّ بسوريا نتيجة اجتياح إسرائيلي محتمل لن يدع أنقرة بعيدة عن شواظّه. فحديث وزير خارجية إسرائيل (جدعون ساعر) مؤخراً عن مظلوميات كردية ودرزية قد لا يخفي امتداداً لمظلوميات عرقية وطائفية أخرى ربما تجد لها مُتّسعاً من الطرح أو الاشتعال سواء في سوريا أو تركيا أو بلدان مجاورة أخرى. ومن هنا يمكن النظر إلى الإلحاح التركي على التطبيع مع الأسد على أنه خطوة إستباقية تهدف إلى الإجهاز على كيان (الإدارة الذاتية) لحزب الاتحاد الديمقراطي في شرقي سوريا، وكذلك إلى إغلاق أي ثغرة يمكن أن تغذّي طروحات أقلوية، سواء أكانت عرقية أم مذهبية. ولكن على الرغم من التلهّف التركي لهذه المبادرة، إلّا أنها لا تحظى بالتلهّف ذاته لدى الأسد، ليقينه بأن المبادرة التركية لا تجسّد أولوية بالنسبة إليه. إذ إن التطبيع مع تركيا في الوقت الراهن ربما ينعشه اقتصادياً ويعزّز كيانه أمنياً، ولكن لن يقيه الخطر الإسرائيلي ولن يكون بمقدوره انتشاله الآمن من القيد الإيراني. فهواجس الأسد تكاد تكون أمنية بالدرجة الأولى، تنبثق من حرصه على استمرار سلطته وبقائه في الحكم قبل أي شيء. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن مشروع الدولة الأسدية بشطريها (الأب – الإبن) هو ضمان السلطة واستمرار بقائها قبل أي شيء آخر. ولعل هذا ما أوجد قابلية كبيرة لدى نظام الحكم لإقامة توازنات مع دول متناقضة الأهداف، فضلاً عن قدرته على تلبية مصالح أكثر من طرف في الوقت ذاته.
على أية حال، فإن تعدد الأجندات الإقليمية التي يواجهها نظام الأسد، سواء ما هو واقعي منها أو ما هو مفترض، تبقى محكومة جميعها بما ستفضي إليه التفاهمات الروسية الأميركية. وهذا لن يحدث قبل تولّي الرئيس الجديد ترمب لمهامه الرئاسية في العشرين من كانون الثاني المقبل.