الأزمة الأوكرانية.. بوادر سباق تسلّح وحرب باردة جديدة تلوح في الأفق

2022.02.08 | 06:00 دمشق

2022_1_1_16_42_9_189.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مقالة سابقة نشرت على تلفزيون سوريا تناولنا الأدوار والأهداف الروسية والأميركية في منطقة آسيا الوسطى. خلصت المقالة إلى أن التنافس الروسيّ الأميركيّ في المنطقة غير متكافئ، وأن من مصلحة موسكو الدخول في مفاوضات جدّيّة عميقة لعقد اتفاقيات كُبرى تؤسس للاستقرار الاستراتيجي الذي تحدث عنه بلينكن في السابع من شهر يناير/كانون الثاني هذا العام. الولايات المتحدة الأميركية تطمح إلى تأسيس هذا الاستقرار الاستراتيجيّ من خلال طاولة متعدّدة الأطراف تضمّ كلّا من الاتحاد الروسي وتركيا، بهدف زيادة الضغط على بكّين من خلال تغيير جذري في الجغرافيا السياسية غرب الصين وإخضاعها للتفاوض مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية لدفعها باتجاه قبول الاحتواء الغربيّ والانضمام إلى طاولة المفاوضات.

التحركات الأميركية:

"أمام روسيا مساران إما الحوار والدبلوماسية لتبديد القلق بشأن الأمن أو مواجهة عواقب وخيمة" آخر تصريحات لبلينكن الجمعة 4/2/2022 الموجّهة إلى روسيا سبقتها تحرّكات أميركيّة على كافة الصّعُد. وصل عدد القواعد العسكرية الأميركية في اليونان إلى (6) قواعد عسكرية، وأرسلت بضعة آلاف من الجنود ضمن تحالف الناتو إلى الحدود الشرقيّة الأوروبيّة. كما زادت واشنطن والاتحاد الأوروبيّ من وتيرة التسليح لجمهورية أوكرانيا، ولاقى ذلك استنكارا روسيّا. أسست واشنطن تحالف (AUKUS) ثم عملت جهودا لتوسعته من خلال إطلاق حوار (QUAD) مع اليابان والهند. تتهم بكين وموسكو الولايات المتحدة الأميركية بأنها تعمل على زيادة سباق التسلّح في المنطقة وانتشار الأسلحة النووية، في الوقت الذي تهدف فيه واشنطن من هذه التحالفات إلى ضمان حرّيّة التجارة والملاحة الدولية امتدادا من المحيط الهادئ حتى المحيط الهندي بسبب زيادة نشاطات بكين في بحر الصين والتحركات باتجاه تايوان لضمّها بغية تحويل بحر الصين إلى بحيرة صينية داخلية، مما يؤدي إلى تهديد الملاحة الدولية المفتوحة على طول المحيط الهادئ والهندي. وسبق أن أجرت موسكو في أواخر العام الماضي مناورات عسكرية في المحيط الهادئ، وقبله تحرّكات أميركيّة سابقة بمناورات عسكرية ثنائية مع اليابان في بحر الفلبين تزامنا مع اختراق للمجال الجوّي التايواني من قبل الصين.

التحركات الروسيّة:

تصاعدت التصريحات والتحركات الروسية فيما يخص الأزمة الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية وما تزال. كان آخرها التحركات الثنائية الروسية الصينيّة ابتداء من المناورات العسكرية بينهما في بحر العرب، وصولا إلى مخرجات القمة الروسية الصينية التي صرّحت بافتتاح عصر جديد في العلاقات الدولية وأحقّية الصين بضمّ تايوان، وإبداء القلق حيال التحالفات التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية.

وبالانتقال إلى الأزمة الأوكرانية وتصاعد تراشق التصريحات والتهديدات بين الطرفين، دعت الخارجيّة الروسيّة مؤخرا رئيسَ الوزراء البريطاني للكفَّ عن نشر المعلومات الكاذبة - على حد وصف الخارجية الروسية - حول عزم روسيا غزو أوكرانيا. هذه المزاعم من الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا زادت وتيرتها، ولم تلق استياء من قبل روسيا فحسب، فقد حذّر الرئيس الأوكراني الغرب من إمكانية إلحاق أضرار باقتصاد أوكرانيا حال الاستمرار في إثارة الذعر. كما صدرت عدّة تصريحات من الاتحاد الأوروبيّ تبدي استياءها من ذلك. فقد قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل في وقت سابق، إنه لا يوجد أي سبب يدعو الاتحاد لسحب موظفيه وأسرهم من أوكرانيا. جاء ذلك قبيل مشاركته في اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي لمناقشة التوتر الحاصل بين أوكرانيا وروسيا. مما دعا المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي مؤخرا للقول بأن واشنطن "لن تصف بعد اليوم الهجوم العسكري الروسيّ المحتمل على أوكرانيا بالوشيك"، مع أن الإدارة الأميركية ما تزال تعتبر أنه "قد يحصل بأي وقت"[1]. ومع ازدياد الحشود الروسية في بيلاروسيا التي وصفت بأنها الأضخم من نوعها منذ انتهاء الحرب الباردة، وتضمّن نشر أكثر من 30 ألف جندي وطائرات مقاتلة وصواريخ إسكندر ومنظومات صواريخ S400، ثم تصريح وزير الدفاع الأوكراني عن حجم الحشودات العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية التي وصلت إلى 115 ألف جندي روسيّ. ولا بدّ هنا من التذكير بالمقال الذي نشره الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في 12 تموز/ يوليو 2021 على موقع "الكرملين" موجّها إلى الرأي العام الروسيّ، عن الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين. وفي المقال اعترف بوتين بارتكاب أخطاء شخصية في فترات مختلفة، وتحدّث عن انتماء شعوب روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا إلى القبائل السلافية (الروس). وشحن المقال بعبارات تاريخية من الثقافة المسيحية كعبارة القديس أوليغ عن كييف "أتمنى أن تكون هذه أم المدن الروسية". وفي المقال يقرّ بوتين بالسيادة الحقيقية لأوكرانيا ولكنه يحصر إمكانيّة ذلك فقط بالشراكة مع روسيا الاتحادية. وختم بوتين مقالته بالقول: "لم تكن روسيا أبداً ولن تكون منهاضةً لأوكرانيا، أما كيف يجب أن تكون أوكرانيا فهذا  يُقرّره مواطنوها"[2].

وباتجاه القطب الشمالي، قام الأسطول الشمالي الروسيّ بتدريبات تحاكي صد هجوم للعدوّ المفترض بالمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ في القطب الشماليّ في منطقة بيتشينيغسكي بمقاطعة مومانسك شمالي غربي البلاد. شارك في هذه التدريبات مشاة الأسطول الشماليّ الروسيّ[3].

تحركات تركيّة محدودة:

بقيت أنقرة صامتة رغم انضوائها ضمن حلف الناتو إلى وقت قريب. ثم دشّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التحركات التركيّة بدعوة الرئيس الروسيّ لزيارة تركيا لتعلن بعدها الحكومة الروسيّة عن قبول الدعوة دون تحديد وقت محدد لها. تمثل الجغرافيا الأوكرانية قضيّة متعلّقة بالأمن القوميّ التركيّ، وترفض تركيا أي تعدّ على الأراضي الأوكرانية من قبل روسيا، ولها موقفٌ واضح تجاه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. كما أن أنقرة لم تتردد كما هو الحال مع بعض الدول الأوروبية بخصوص تسليح أوكرانيا ودعمها بتنكولوجيا المسيّرات التركيّة كسلاح استراتيجيّ ميدانيّ في أي مواجهات مستقبلية محتملة. وقد صرّح الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان عقب زيارته لأوكرانيا الخميس الفائت بقوله: بايدن لم يظهر حتى الآن نهجا إيجابيا لحل التوتر الروسي الأوكراني، مبديا استعداد أنقرة للوساطة. ورد الكرملين على هذه التحركات التركية بالقول: لا وضوح بعد بشأن مبادرة الوساطة التركية للحوار مع أوكرانيا ولا بشأن توقيت زيارة بوتين لتركيا.

تدرك تركيا أن حدودها الشمالية والجنوبيّة والشرقية تشتعل بالأزمات الكُبرى، الأزمة الأوكرانية، والأزمة السورية والعراقية، ومسألة القواعد العسكرية الأميركية في الأرخبيل اليوناني التي تهدد مصالحها وحقوقها بالغاز في شرق المتوسط. ولذلك ترتكز التحرّكات التركيّة في جميع قضايا المنطقة باتجاه التهدئة وحلّها بالأساليب الدبلوماسية، ومحاولة الاستفادة من هوامش الاختلاف والصدوع البادية في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبيّ.

الخلاصة:

تتسم التحركات الروسيّة بالفاعلية والكثافة، نظراً لكونها الجهة الفاعلة الوحيدة القادرة على التأثير في المفاوضات الأميركية لتأسيس الاستقرار الاستراتيجي للنظام الدوليّ، وهي الدولة الوحيدة القادرة على ممارسة دور مركزيّ في احتواء الصّين وضمّها إلى طاولة المفاوضات الأميركية. تريد موسكو تقوية موقفها في المفاوضات، ويبدو أنه هو الأقوى "ظاهريّا". وتعتمد أميركا بشكل أساسيّ على الاستجابة الروسيّة لتحقيق تطلّعاتها في المنطقة الممتدة من أواسط آسيا وصولا إلى بحر الصين.

سباق للتسلّح بدأ، وبوادر حرب باردة جديدة تلوح في الأفق من المستبعد أن تتطوّر إلى حرب حقيقيّة، تمارس من خلالها الولايات المتحدة الأميركيّة والغرب ضغطاً كبيرا على كلّ من روسيا والصين وتركيا بشكل أساسيّ يبدو - حتى الآن - أنه لم ينجح، إذ قامت روسيا بالتحرك شرقا باتجاه الصين وتحريك القوى العسكرية الروسية في جميع الاتجاهات.

ترغب واشنطن والاتحاد الأوروبي بتعاون مفتوح مع روسيا، وهناك الكثير من الأسباب التي تدفع الروس للتفاوض مع الغرب على مصالحها بشكل قويّ. ومن المتوقّع أن تلعب روسيا دورها بما يصب في المصلحة الغربية الأميركية وما يعطّل ذلك تعنّت الغرب أمام عدّة مطالب روسيّة ما تزال واشنطن ترفض تلبيتَها بخصوص قضايا تمدد الناتو واشتراطات تعتبرها القوى الغربيّة أمراً لا يتسق مع سيادات الدول وحرّيتها في اختيار تحالفاتها وسياساتها الخارجية، ويمارس الروس ضغوطات مضادّة باتجاه الصين والقطب الشماليّ. إلا أنه يمكن التكهّن بأن مصلحة روسيا في النهاية تصبّ في المعسكر الغربيّ نظراً لحتمية الصعود الصينيّ الذي بات يشكل أرقا استراتيجيا لروسيا القيصرية.

 


[1] https://arabic.rt.com/world/1320918-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B4%D9%8A%D9%83

[2] http://kremlin.ru/events/president/news/66181
https://dimensionscenter.net/%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86

[3] https://arabic.rt.com/videoclub/1320092-%D8%B1%D9%85%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AF%D9%81%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A/