تعجبنا نحن السوريين فكرة أن يكون لدينا "آباء مؤسسون" أسوة بما توصف به أميركا وفرنسا وسواهما، تداعبُ شيئاً من فخر تنطوي عليه شخصيتنا الجمعية، خاصة أن التوصيف يخصّ مرحلة كان المجتمع تراتبياً ويتحكم في مفاصله النظام الأبوي، ولا يزال وإنْ بنسبة أقل. نريد باستعمالنا لهذا المصطلح أن نتخفَّف قليلاً من مرحلة الاتهامات والتبعية؛ التي عادة ما نواجِه بها الكثير مما يتعلق بتاريخنا المعاصر في مرحلة الاستقلال الأولى وما قبلها.
يسهب متابعون في التوصيف ليتحدثوا عن آباء مؤسّسين للدستور السوري (دستور 1920 و1922و1930 و1950، ودساتير البعث المؤقتة، وصولاً إلى دساتير حافظ الأسد)، ويتحدَّثون كذلك عن آباء مؤسسين لسوريا في أثناء الانتداب الفرنسي، وفي فترة الاستقلال الأولى، وآباء مؤسّسين في مراحل حزب البعث، وصولاً إلى أب مؤسس واحد للحجر والبشر والبلد والتاريخ والجغرافيا، النتيجة التي يريد سوريون كثيرون أن يصلوا إليها هي: العسكر والانقلابات العسكرية وحزب البعث وصولاً إلى حافظ الأسد (الحزبي العسكري)، هم سبب الخراب والمآل.
يفرق سوريّون كثيرون بين موظفين مسؤولين، ورجال دولة مسؤولين. ويصفون رجال الدولة بأنهم أولئك الذين تركوا بصمة وأضافوا واتخذوا قرارات صعبة
يتوقف المتابعون عند مرونة عدد من أولئك الآباء ونفعيتهم (ربما)؛ بحيث بقوا هم أنفسهم في عدد من تلك المراحل بحيث إنه في عرس كل مرحلة كان لهم قرص. ولا توجد إجابة علمية عن السؤال التالي: لماذا طالت يد التخوين هذا الأب المؤسس مثل محمد علي العابد أو أكرم الحوراني، وطالت يد التمجيد أباً مؤسساً آخر مثل حالة شكري القوتلي، وصولاً إلى السؤال المرير: هل كانت تشغل أولئك الآباء فكرة بناء سوريا كبلد له خصوصية أكثر، أم فكرة السيطرة على السلطة وفرض الإرادة؟ لنصل إلى إشكالية تؤخذ، من دون تأمل، تتبدى في سؤال آخر: هل جاءت مشكلات سوريا كلها حين تدخل العسكر أم أن عدداً من خيارات أولئك "الآباء" كانت قصيرة المدى وضيقة الأفق ومقتصرة على مصالح طبقتهم السياسية والاجتماعية وقناعاتهم الفردية، مما أعطى العسكر فرصة للتدخل في مرحلة ما بعد الاستقلال، ومرحلة الوحدة، وما بعد الوحدة، وانقلاب 1966، وصولاً إلى انقلاب حافظ الأسد ورفاقه 1970/1971، الذين أفادوا من الغليان المجتمعي، والحراك وتحولات الاقتصاد وتَفَيْنق الريف ليوجّهوه تبعاً لمصالحهم الشخصية أيضاً!
يفرق سوريّون كثيرون بين موظفين مسؤولين، ورجال دولة مسؤولين. ويصفون رجال الدولة بأنهم أولئك الذين تركوا بصمة وأضافوا واتخذوا قرارات صعبة. أما المسؤولون "الموظفون" حتى لو كانوا رؤساء دولة (مرّ على سوريا 22 رئيساً بين مُنتخَب ومعيَّن ومنقلب وبالنيابة) فهم يديرون مرحلة من باب "يا دار ما دخلك شر" مثل حالة أمين الحافظ أو أحمد الحسن الخطيب. ويمكن أن ننقل هذه الفكرة لقراءة المؤسسات الإدارية واختلاف مدير عن مدير آخر، إذ ثمة من يريد أن يضيف ويترك بصمة متميزة، وثمة مدير يدير مرحلة لا يحرك ساكناً أو يضيف شيئاً لتاريخ المؤسسة.
يلفت النظر، وأنت تحاول أن تنقّب في التاريخ السوري في مرحلة ما قبل الاستقلال، كيفية بدء تشكيل مفهوم "الدولة السورية"، ومن هم رجالها، وما هي المخاضات التي مرّت بها، وصيغ الحكم التي تمّ اقتراحها، وكيف تم بدء تشكيل "سوريا" كصيغة للعيش المشترك بين ساكنيه. ويدهمك سيل من الكتابات والمقالات اليقينية، بخاصة في مرحلة الإنترنت، تحاول توصيف أولئك الرجال، من دون الأخذ بعين النظر المرحلة التاريخية أو الظروف الدولية، الذين أسهموا في تكوين الخصوصية السورية وبدء تشكيل الدولة، إبان سعيها للخروج من الغبار العثماني أو الالتفات إلى مرآة جديدة في ظل ظرف دولي قلق، لعلها تجد اسمها الخاص بها ضمن سياق الانتداب الفرنسي.
ويظهر سؤال جديد: ماذا كان لدى أولئك الرجال إبان الانتداب الفرنسي والمرحلة الأولى من الاستقلال من خيارات أخرى آنئذ؟ لو لم يستلموا مهماتهم ويختاروا تلك الخيارات ماذا كان هناك من حلول أخرى؟ وهل تحرك أولئك الرجال بصفتهم أفرداً أم بصفتهم "كتلة وطنية" أو أحزاباً لها حضورها وخصوصيتها في ظل مرحلة كان مفهوم الانتماء الحزبي لا يزال يحبو في ظل غلبة الأمية وبساطة الحياة وفلاحيتها على كثير من جوانبها.
السؤال الآخر: من يقود عادة دولة ما إلى التشكل والتحرر والخصوصية بمثل تلك الظروف آنئذ، قبل نحو مئة عام وما بعد، الطبقة المتعلمة أم المالكة، أم رجال الدين؟ وكيف يمكن المواءمة بين مصالحها وخصوصيتها وما تريده لبلدها والظرف العام للبلد والقوى المسيطرة عليه. فالسياسة وفقاً لـ "حنة ارندت" إبقاء الجماعة متناغمة في صورة أفضل، وما السياسة آنئذ غير فنّ تحصيل المصالح السورية بما ينسجم مع مصالح تلك الشريحة. فالوعي الوطني الذي ننشده بعد 80 عاماً ليس مادة جاهزة بل حالة صيرورة تتشكل أولاً بأول. وبعيداً عما تمّ الاشتغال عليه سورياً، أكثر من نصف قرن تشويهاً وإساءة، ما العيب، من وجهة معرفية، في أن تبحث "البرجوازية السورية" عن مصالحها بما ينسجم مع مصالح البلد؟
وبما أن الجو العام، حالياً، بحثياً ومعرفياً، جوّ حر، في مرحلة المعلومة المفتوحة، يبرز السؤال: ما هي مقاييس الوطنية؟ وما هي معايير التخوين؟ وهل تلك المعايير ثابتة أم متحولة؟ هل من الإنصاف، بعد ما يزيد على 80 عاماً أن نجلب معايير من ثقافة ومعرفة متراكمة، مختلفة كلياً، لنقايس عليها أفعال أولئك الرجال، صناع المفهوم السوري؟
بالتأكيد لا تعني حالة الوطنية أو التخوين الخروج عن القيم الأساسية للعمل السياسي وهي تناغم مصلحة البلد مع المصلحة الشخصية في إطار العلاقة بين الحاكم والمحكوم وآليات توزيع السلطة وتنظيمها، في ظل عدم مخالفة القيم العامة الإنسانية، والمحافظة على الثوابت الرئيسية التي تخص حركة مجتمع ما، فهي ليست سابقة كلياً على مفهوم الدولة وتشكلها، بقدر كونها حالة سيرورة مستمرة تؤول إلى صيرورة الدولة وهويتها.
ما مدى صلاحية الفلسفة الأخلاقية المعيارية لتوصيف الفعل السياسي اليومي، ونحن نتحدث عن سوريا فمصطلح "برجوازي" يقابله "شخص عامل أو فقير"، ومصطلح "صناع تاريخ" يقابله "هدام تاريخ" وعن مفاهيم "وطني" يقابله "عميل أو لا وطني" فالوطني وفقاً لهيغل تضحية المرء بمصالحه الشخصية وتقديم مصالح وطنه، وجان جاك روسو ربط الوطنية بالحرية. أما الحديث عن العمالة فيستدعي التأكد من أن "أولئك الرجال" وقفوا في صف المستعمر وهناك من يقول: حاولوا تحصيل أقصى ما يمكن لبلدهم وفقاً للمتاح، وسعوا لحماية بلدهم من الحلول العسكرية المحضة، وكونهم ذهبوا إلى باريس، أو فاوضوا سلطة الانتداب، أو عملوا في ظلها لمصلحة بلدهم لا يكفي لاتهامهم بالعمالة، والسؤال الآخر: هل آذت عمالتهم "الافتراضية" تلك سوريين آخرين أم كانت سبباً في التخفيف عنهم؟
لا يفوتنا أنه، على المستوى السوري، تم ترسيخ مصطلح "العمالة" لكي نرمي به كل من يختلف معنا، خاصة على الصعيد السياسي، بل إن النظام السوري عبر النصف القرن الأخير جعل هذا المصطلح قرين كل مخالف له ومرافقاً لكل شخص وقف ضد النظام أو صدح بصوته أو كان له رأي حر، والهدف هو نزع الشرعية عنه ووضعه في سياق المدافع عن ذاته وعن منظومته القيمية.
معظم المراجع التي تتحدث عن تاريخ سوريا مما هو موجود في المكتبة الوطنية أو المكتبة الظاهرية كانت ممنوعة حتى على طلاب الدكتوراه
إبّان اشتغالي على أطروحة الدكتوراه في تسعينيات القرن الماضي، عن الأدب السوري في القرن العشرين، قراءة تاريخية وصفية نقدية، اضطرِرت إلى قراءة التاريخ السوري وتحقيبه إلى مراحل اعتمدت الحدث السياسي خلفية لها وهي: سوريا ما بين الحربين العالميتين، وسوريا بين الحرب العالمية الثانية ونكسة حزيران، وسوريا ما بعد نكسة حزيران وصولاً إلى الثمانينات، وسوريا ما بين الثمانينات إلى نهاية القرن العشرين وقد لفت نظري عدد كبير من الظواهر الاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية، إضافة إلى عدد من الأعلام المؤثرين الذين تم تغييبهم، أو المرور بهم سريعاً في المناهج الدراسية، للوصول إلى "مرحلة حافظ الأسد" الذي تنسب إليه كل الانتصارات والإنجازات، حتى يتوهم الطالب السوري، والمواطن كذلك، أنه مع انقلاب 16 تشرين عام 1970 (ما يسمى بالحركة التصحيحية) قد استلم حافظ الأسد الرئاسة مباشرة، وما درى كثير منهم أن رئيساً آخر مجهولاً حتى من أبناء قريته (نمر بدرعا)، بل ممنوع عليهم أن يذكروا انه قد استلم السلطة لنحو مئة يوم، في حين أن الخليفة ابن المعتز العباسي استلم الخلافة لمدة يوم وليلة ولا يزال يذكر أنه خليفة!
لا غريب في الأمر: فالتغييب هو سمة ملازمة لحافظ الأسد ونظامه والتجهيل كذلك ومنع المعرفة، فمعظم المراجع التي تتحدث عن تاريخ سوريا مما هو موجود في المكتبة الوطنية أو المكتبة الظاهرية كانت ممنوعة حتى على طلاب الدكتوراه، لذلك كان الباحثون يضطرون إلى الاعتماد على مكتبة المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط (إفبو) بدمشق. وهم يحاولون أن يحبوا معرفياً، قبل مرحلة الإنترنت، من مرحلة المناهج الدراسية السورية الحكومية الإيديولوجية، ليصلوا مشياً أو حبواً إلى مرحلة البحث والمعرفة الحرة.
يقول دبلوماسي غربي التقيت به في إطار مناسبة اجتماعية: إنَّ أحد عوامل صعوبة الحل في سوريا هو التكوين الديموغرافي والطائفي والديني، الذي يحتاج إلى جهود مضاعفة وكبيرة، دعك من موقعها الجغرافي وتاريخها المعاصر ونمط الشخصية السورية، قد تكون مقاربة هذا الدبلوماسي مدخلاً لقراءات جديدة في التاريخ السوري.