اغتيال حسن نصر الله.. اختراق أمني أم لعبة سياسية؟

2024.10.01 | 06:25 دمشق

65555656
+A
حجم الخط
-A

أعلنت إسرائيل رسميا نجاح عمليتها، وتلاها بعد ساعات الإعلان الرسمي من حزب الله باغتيال أمينه العام حسن نصر الله في الاستهداف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية، وعلى الرغم من أن إسرائيل هي من قتلت نصر الله بشكل مباشر، فإن هناك أياديَ خفيةً سرّبت المعلومات عن وجوده في المكان في هذا التوقيت، فإلى أين تتجه أصابع الاتهام؟

في البداية، لا بد من القول إن اغتيال نصر الله كان اختتاما لسلسلة من الاغتيالات الممنهجة التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي ضد الحزب، وكان الضربة الأقسى والأكبر، إذ لم يُقتل فيها رأس الحزب وعصبه الأساس وحسب، بل عدد من القادة الآخرين في الحزب أبرزهم علي كركي المعروف باسم "الحاج أبو الفضل" قائد جبهة جنوب لبنان، إضافة إلى قادة في الحرس الثوري الإيراني.

كما سُبقت هذه العملية بعمليتين كبيرتين الأولى وصفت بأنها أكبر عملية "اغتيال جماعي" عبر تفجير أجهزة التواصل بين عناصر الحزب "البيجر"، والثانية كانت اغتيال 20 قياديا من حزب الله باستهداف لاجتماعهم في الضاحية الجنوبية، من أبرزهم مؤسس قوة الرضوان، إبراهيم عقيل والمعروف باسم "الحاج عبد القادر"، وقائد القوة ذاتها أحمد محمود وهبي والمعروف باسم "الحاج أبو حسين سمير".

يبدو أن إسرائيل، التي كانت تخطط لعملية اغتيال نصر الله منذ وقت طويل بحسب المتحدث باسم جيشها، أرادت أن تقضي على أي شخص يمكن أن يتولى منصب الأمانة العامة خلفا له، وبالتالي تضعف أركان الحزب بشكل كلي، وذلك لتحقيق سببين مهمين: الأول ضمان أن يكون الرد محدودا وعشوائيا بعد العملية، والثانية ألا يكون للحزب كيان قوي ونواة صلبة فيما لو قامت بعملية اجتياح بري، وخصوصا مع توارد الأنباء عن سحبها ألوية احتياط باتجاه الشمال، وتصاعد المؤشرات على وجود عملية برية.

فمن الأطراف الأخرى المحيطة بالحزب التي من الممكن أنها استفادت من عملية اغتيال نصر الله، أو بعبارة أخرى تستفيد من تفكيك حزب الله؟ ومن أين وصلت معلومات عن مكان الاجتماع في المقر الرئيسي للحزب في الضاحية الجنوبية؟

رأس الحزب نصر الله ومنذ تسلمه الأمانة العامة عام 1992، عمل بطريقة أمنية عالية، ازدادت بشكل أكبر بعد حرب تموز.

احتمالية اختراق داخل الحزب

على الرغم من أن حادثة تفجير أجهزة التواصل "البيجر" التي وقعت يوم 17 من سبتمبر/أيلول 2024، تدل على احتمالية اختراق إسرائيل لشبكة التواصل داخل حزب الله، إلا أن الظاهر أن هذا الاختراق لم يصل إلى الدوائر القيادية في الحزب، بدليل أن أحدا من القادة الكبار لم يمت في العملية.

كما أن رأس الحزب نصر الله ومنذ تسلمه الأمانة العامة عام 1992، عمل بطريقة أمنية عالية، ازدادت بشكل أكبر بعد حرب تموز لا ظهورَ علنيا مع وسائل الإعلام إلا ما هو مدروس جدا، ومع أخذ كل الاحترازات الأمنية من اصطحاب الطاقم الإعلامي إلى أماكن مجهولة، معصوبي الأعين، ثم نقلهم إلى مكان اللقاء بعد تفتيش كامل أجهزتهم وملابسهم خشية أن يكون هناك أي اختراق، بالإضافة إلى أنه لم يلقَ خطابات فيزيائية (إلا ما ندر)، فكل خطبه كانت تعرض على شاشات أمام مناصريه، بينما هو يصورها من غرفة لا يعرف مكانها إلا المحيطون من المعنيين.

وإسرائيل التي تسعى إلى اغتيال حسن نصر الله منذ خروجها من لبنان عام 2000، وانسحابها من جنوب لبنان في حرب تموز 2006، لم تنجح في الحصول على معلومات كافية تمكنها من الوصول إليه، بسبب السياسة الأمنية الصارمة داخل الحزب، وقد ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في تقرير نشرته مؤخرا نقلا عن مصادر إسرائيلية أن نصر الله تعرض لثلاث محاولات اغتيال خلال حرب 2006 نجا منها.

يقود ذلك إلى طرفين معنيين بالحزب بشكل كبير، وتربطه مع أولهما علاقة مصلحة مشتركة وتدخل الحزب بكل ثقله إلى جانب هذا الطرف في حرب لقمع ثورة شعبية، ومع الثاني علاقة تبعية، بحسب ما ورد على لسان أمينه العام في فيديو قديم، أن الحزب يتبع الولي الفقيه.

خلع العباءة الإيرانية.. نظام الأسد في سوريا

يقول الباحث الفرنسي ميشيل سورا في كتابه "سوريا، الدولة المتوحشة"، والذي قتلته جماعة "الجهاد الإسلامي" قبل أن تتحول إلى مسمى حزب الله في لبنان بسبب كتاباته عن النظام السوري في عام 1986، إن النظام في سوريا كان يعتمد على اللعب على التناقضات، ويتبع سياسة الجذمور، وهو نبات أرضي يتمدد أفقيا، ويستخدم المصطلح للدلالة على بناء العلاقات وفق منطق براغماتي يدمج فيه التعدديات في مكان واحد ممتلئ بالتحالفات والتناقضات والتلاعب بها لتحقيق الغاية. وهذا ما فعله حافظ الأسد داخليا، من خلال اللعب على التناقضات الثنائية في سوريا؛ ريف - مدينة، و(سني – علوي)، وإقليميا خلال الحرب الأهلية في لبنان، حيث تحالف في البداية مع حزب الكتائب المسيحي في لبنان لضرب القوى الجهادية في طرابلس، والقوة الفلسطينية في مخيم تل الزعتر، وتحالف بعد ذلك مع جماعة حركة أمل بداية ثم مع حزب الله الشيعيين لاحقا لتحقيق تحالفه مع إيران بعد الثورة الإسلامية.

هذا النهج الأمني الذي أسسه الأسد الأب استمر ذاته، فالمنظومة الأمنية في سوريا لم تتغير، والنظام الذي انفتح على الغرب بعد تسلم بشار الأسد السلطة في عام 2000، ثم انقلب إلى الحلف الإيراني بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وفتح حدوده أمام الميليشيات الطائفية من لبنان والعراق وإيران منذ 2012 بعد أقل من عام من انطلاق الثورة، ولاحقا انزاح بشكل أكبر إلى الجانب الروسي بعد عام 2015، ما يزال يحاول اللعب على التناقضات بهدف بقائه في السلطة، وشرعنة وجوده.

قد كشف مقتل لونا الشبل المستشارة الإعلامية لبشار الأسد في يوليو/تموز 2024 عن شبكة تخابر مع "دولة أجنبية" والمقصود بها إسرائيل، أسهمت في إعطاء إحداثيات للذين تم اغتيالهم في سوريا.

كانت أولى الاختراقات التي حققتها إسرائيل من خلال النظام في سوريا التي تعرض لها حزب الله من خلال النظام السوري سلسلة الاغتيالات الطويلة والمتباعدة لقادته والتي نفذتها إسرائيل في سوريا بدءا من عام 2014، كان من أبرزهم مصطفى بدر الدين في مايو/أيار 2016 والذي وُصف بأنه قائد عمليات الحزب في سوريا وآخرها استهداف السفارة الإيرانية بدمشق في أبريل/نيسان 2024. وقد كشف مقتل لونا الشبل المستشارة الإعلامية لبشار الأسد في يوليو/تموز 2024 عن شبكة تخابر مع "دولة أجنبية" والمقصود بها إسرائيل، أسهمت في إعطاء إحداثيات للذين تم اغتيالهم في سوريا.

وبالنظر إلى المرحلة الأخيرة، منذ بدء حرب غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، فإن نظام الأسد نأى بنفسه عن أي رد فعل ضد إسرائيل، يشمل ذلك التصعيد في التصريحات، حتى في عمليات مركبة، مثل قصف السفارة الإيرانية في دمشق في 01 أبريل/نيسان 2024، أو مثل استهداف منشأة عسكرية في مصياف قرب مدينة حماة في 9 سبتمبر/أيلول 2024، إذ نقل موقع تلفزيون سوريا عن مصادر محلية، أن إسرائيل نفذت إنزالا مظليا واختطفت خبراء إيرانيين من المنطقة.

كان لعودة النظام إلى مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى إشارات بتحركات أوروبية باتجاه التطبيع مع النظام بدأت تلوح مع دعوة ثماني دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم العلاقة مع دمشق، أعطت بارقة أمل للنظام في سوريا باحتمالية عودته إلى الساحة السياسية بعد عزلة استمرت 13 عاما.

ومن الواضح أن النظام يريد أن يتخلص من العبء الإيراني الذي يقف تغلغله -وأهم أذرعه حزب الله- في سوريا عائقا أمام استمرار عملية التطبيع السياسي مع شرعية وجوده، لذلك فإن الاحتمالية كبيرة في أن يكون إعطاء المعلومات عن قادة حزب الله في لبنان لإسرائيل يتم عبر قنوات تتبع للنظام بشكل مباشر، وخصوصا أن الاستهداف الذي قتل فيه نصر الله حدث خلال اجتماعه مع وفد من الحرس الثوري الإيراني قادم من دمشق.

عملية اغتيال نصر الله، وما سبقها من ضربات متتالية للحزب، أدت إلى خلخلة كبيرة في هيكلية الحزب، وإن كانت لم تؤثر بشكل كبير على سلاحه ومنظوماته الصاروخية، كما تصرح إسرائيل، إلا أنها ضربت أساساته التنظيمية.

المساومة على شيء أهم: إيران

ننطلق من آخر نقطة انتهيت عندها أعلاه، فالوفد الذي كان يجتمع معه نصر الله من الحرس الثوري الإيراني، وقد يكون أحدهم مُتتبَّعا عبر أجهزة تعقب بعلم أو توجيه إيراني.

كان من الواضح أن استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، ومقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بحادثة تحطم المروحية، قد أسستا لمرحلة جديدة من التعاطي الإيراني مع إسرائيل. فعلى الرغم من أن إيران قد ردت على استهداف سفارتها في دمشق بقصف إسرائيل برشقة صواريخ وأسراب من الطائرات المسيرة، التي لم تحقق نتائج أو أضرارا ملموسة داخل إسرائيل، وذلك أنها أرادت للرد أن يكون ضمن إعادة ضبط قوانين الردع في المنطقة ورد الاعتبار المهزوز في عيون حلفاء طهران والحرس الثوري الإقليميين.

ولكن بعد مقتل إبراهيم رئيسي وانتخاب مسعود بزشكيان تحولت إيران إلى سياسة الصبر الإستراتيجي، إذ لم يُتبع اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس إسماعيل هنية على أرض طهران خلال حفل تنصيب بزشكيان، إلا بتصريحات إيرانية أن الردّ قادم ولكنه سيكون مدروسا وفي الزمان والمكان المناسبين، وما زال الجمهور ينتظر الرد الذي لم يأت.

أما الرئيس الإيراني الذي كان يزور واشنطن عشية عملية الاستهداف، وقبل الإعلان عن مقتل نصر الله، فقال: "إننا (أي الإيرانيين) والأميركيين إخوة، وعليهم (أي الأميركيين) أن يتوقفوا عن عدائهم لنا بإظهار حسن نيتهم علميا". وأضاف أن إيران مستعدة لنزع أسلحتها بشرط أن تقوم إسرائيل بالشيء نفسه. في هذا التصريح -غير الممكن تطبيقه عمليا- فيه تجاوز لفكرة الحرس الثوري الإيراني العابرة للحدود.

قوبلت تصريحات بزشكيان بردود أفعال غاضبة داخل إيران، فقد وصفتها صحيفة "كيهان" المقربة من مكتب المرشد الإيراني، علي خامنئي، بأنها "زلة لسان"، ودليل على عجز الرئيس عن إلقاء خطب فعالة. كما انتقدت صحيفة "جوان" التابعة للحرس الثوري الإيراني التصريحات أيضا، وهذا يظهر تباينا في المواقف بين الرئاسة ذات التوجه الإصلاحي، والتيار التقليدي داخل إيران.

أما اللغة التي استخدمها المرشد الأعلى للثورة في إيران علي خامنئي في تصريحاته عقب استهداف المقر الرئيسي لحزب الله، والتي جاء فيها أن مصير المنطقة تحدده قوى المقاومة وعلى رأسها حزب الله، وأن لبنان قادر على جعل إسرائيل نادمة، تدل على أن إيران تسحب يدها من الرد على هذا الاستهداف، حيث لم يرق إلى تصريح تحت بند الصبر الإستراتيجي، الذي انتهجته عقب استهداف هنية.

فقد تكون المساومة فعليا على الملف النووي الذي ترغب إيران في إتمام اتفاقه البديل لحزب الله، وقد صرح بزشكيان عقب عودته من الاجتماع الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة حول الاستمرار بخطة العمل الشاملة والمشتركة.

عملية اغتيال نصر الله، وما سبقها من ضربات متتالية للحزب، أدت إلى خلخلة كبيرة في هيكلية الحزب، وإن كانت لم تؤثر بشكل كبير على سلاحه ومنظوماته الصاروخية، كما تصرح إسرائيل، إلا أنها ضربت أساساته التنظيمية، وعملية بحجم اغتيال الأمين العام للحزب بلا شك تحتاج إلى معلومات استخبارية دقيقة أكثر من كونها عملية جمع معلومات وتعقب تراكمية على مرّ الأشهر والسنوات، وربما تُفتح الصناديق السوداء لاحقا، ويكشف مَنْ يقف وراء تزويد إسرائيل بالمعلومات.