هل هناك استراتيجية تعمل عليها الدولة الشمولية، تهدف لبث القناعة لدى الشعب، بأنه هو سبب الأزمات المستفحلة في البلد، أم أنها تصورات نبتدعها كلما أحسسنا أننا نعاني من ضيق أو انهيار، لا سيطرة لنا عليه، فنلقيها على عاتقنا؟ إذا لم نخطئ التفكير، فسوف ندرك أن الدولة وحدها المتسبب بها، ومسؤولة عنها، إن لم تكن مبرمجة، ضمن مخطط يعمل على ما يدعى باستراتيجية الإلهاء؟
ما يمنعنا أحيانا عن تحميل المسؤولية لأجهزة الدولة هو عدم ثقتنا بكفاءتها، وأن القائمين عليها جماعة من المسؤولين الأغبياء واللصوص، إلى حد اعتقادنا، أنه لن يبلغ بهم الذكاء، إلهاء الناس بمراسيم وقوانين، اتخذتها نخب الدولة لضرورات سياسية واقتصادية، لماذا؟ ليست لدينا القناعة بوجود نخب وطنية، وإنما جماعات لديها مصالح، ما هي إلا عصابات تسعى للسيطرة على مقدرات الوطن، على ارتباط بالأجهزة الأمنية تسهل لها الحصول على مكاسب، بمقابل، عادة ما يكون بالشراكة معها.
هذه النظرة ليست غير واقعية، وإنما قاصرة عن التفسير، إن لم ندرك أن نخب النظام مأجورة تهدف إلى تحويل الاهتمام عن قضايا مصيرية وتحولات مؤلمة، يدفع المواطن الضحية تكاليفها الباهظة من حياته ومستقبله. مصلحة النظام تملي التجهيل بها، بإبعاده عن التفكير فيها، كإجراءات تؤثر في النهاية في حياته، بجذب أنظاره إلى موضوعات لا أهمية لها فعلا، أو لا تستحق، أو تأخذ حجمًا مبالغًا به، للتعمية على أزمات مستعصية، ليس من المرغوب إيجاد حل لها، وإنما استثمارها والانتفاع منها، وإذا كان من المفترض معالجتها في العلن، فباللجوء إلى الحلول المسكنة، أو الادعاء بالعمل على التخفيف من آثارها وعواقبها.
ثمة أكثر من مثال شائع، فالملاحظ أنه من باب العناية بالرياضة والتشجيع عليها، رعاية الهستيريا المصاحبة لكرة القدم أيضًا، حتى أصبحت تقليدًا اجتماعيًا دوريًا، أو شدّ الانتباه إلى المسلسلات التلفزيونية، والتحفيز على متابعتها يوميًا، تُبث من خلالها رسائل، تختلق إشكالات تشجع على مناقشات وخلافات سخيفة حول الزواج من أربع نساء، أو الانتقاص من التاريخ الوطني أو سمعة مدينة وربما حارة، أو عادات اجتماعية آخذة بالاختفاء بإعادة الروح لها. ما يثير اهتمامًا واسعًا، ينشغل جمهور المشاهدين بها، بينما هناك مشكلات حقيقية معلقة، وهكذا من مسلسل إلى مسلسل، فما بالنا والمسلسلات تهبط علينا كالمطر في رمضان، ثم متفرقة طوال السنة، ترغي وتزبد، تبارك جيشًا يقتل ويعفش، أو تحسّن سمعة الشبيحة في تجارة المخدرات والممنوعات، وقبل هذا وذاك تحويل شبان المظاهرات إلى إرهابيين.
هل لدى النظام دراية بسيكولوجيا الجماهير؟ لا، إنه لا يهتم بالجماهير، لكنه يستفيد من أية ثغرة تعمل على خلخلة بنيانها، وتجييرها لمصالحه المباشرة. أما السيكولوجيا المعتمدة، فتدريبها على طاعة دكتاتورية ديماغوجية، غير مثقفة، شرهة للمال، تحتقر الشعب، جاءت بها الدبابات واستمرت بالأكاذيب. تنظر إلى البلد على أنه مزرعة، والشعب على أنه مجموعات من البشر يجب أن تبقى هادئة.
صحيح أن المسؤولين ليسوا أذكياء، لكنهم يتعلمون من تجاربهم، فالبقاء في الحكم نحو نصف قرن، يكدس تجارب، يستفيدون منها وتورث لغيرهم، ودائما الوريث أشد قسوة، ليبرهن على أنه كفء للمنصب الذي أنعم عليه به من دون جدارة، فيظهر مزيداً من الولاء والقمع. ويختلق مشكلات لا لسبب غالبًا، إلا لتقديم الحل لها، ويبلغ الكمين أقصاه في الإيقاع بالناس والتضييق عليهم، ونسب السبب إلى المعارضة، ما يدفع المتضررين إلى مطالبة النظام بتدابير قاسية لقطع دابر المشكلة، وهكذا رأينا موالين يشجعون النظام على قصف الأسواق والأفران، ومحو مدينة من الخريطة وتهجير الأهالي. هذه الإجراءات طالب بها أيضًا مدنيون من الأهالي، ومثقفون بلا ضمير، وكان أبلغ ما اعتدت الأجهزة إشاعته هو استهداف الأقليات، ما جعل الأهالي يحسون أنهم مهددون من جيرانهم، فكان في تسليحهم حماية منهم، ما أدى إلى تحرشات ونشوب خلافات دامية.
تتلاعب الأنظمة الشمولية بمواطنيها، وتخاطب جماهيرها على أنهم سذج، أو تحت سن الرشد، وتبرر بصفاقة تصرفاتها التسلطية والإجرامية، بإقناعهم بحكمة القيادة. بيد أن الإيمان بها يتطلب تصديق ترهات أبواق السلطة. إن الأداء الإعلامي للقنوات التلفزيونية الرسمية شاهد في السنوات الماضية على استحالة تصديق ما كان يُفبرك، لكن الخوف يعطل العقل، فكان هناك من صدق أن القصف الكيماوي افتعلته المعارضة، وكأنه حقيقة مطلقة.
ما يأخذنا إلى الأسوأ، إلى ما يدعى ببلادة الجماهير، وهو عدم الإحساس بآلام مواطنين مثلنا، يُقصفون ويُهجّرون، فقدوا آباءهم وأولادهم ونهبت جناية عمرهم... وكأنهم يستحقون هذا العقاب على مطالبتهم بالحرية.
أما العامل السيكولوجي، فدفع المدنيين إلى الإحساس بالذنب، وأنهم يستحقون الغلاء، وفقدان المواد الغذائية، وطوابير الخبز والوقود والغاز... من جراء ترددهم إزاء الانحياز ضد الثورة، وهو ما يلغو به المسؤولون في أعلى المناصب إلى أدناها، النظام يشمت بالشعب، مع أن الموالين كانوا موالين، لكن ألم يخرج المتظاهرون من هذا البلد؟
هذه الأساليب، لا تشهد على الغباء، بل على الحقد.