استراتيجية البقاء لدى تنظيم الدولة

2024.05.14 | 07:50 دمشق

داعش
+A
حجم الخط
-A

كان حافلاً مطلع العام الحالي 2024 في حجم ونوعية العمليات التي نفذها تنظيم الدولة في سوريا، لم يكن الأمر غير معتاد في مساحة العمليات التي امتدت على طول تجاوز 500 كم من محافظة الحسكة شرقي سوريا، إلى الجنوب في محافظة درعا، ونصف هذه المسافة في العمق من وسط البادية السورية وصولاً حتى الحدود العراقية المقابلة لمدينة تدمر شرق محافظة حمص، لكن حجم هذه العمليات الذي وصل منذ بداية العام الحالي إلى منتصف شهر نيسان/ أبريل إلى مستويات قياسية، فبحسب المرصد السوري لحقوق الانسان الذي نشر تقريراً بتاريخ 21 نيسان/أبريل وثّق فيه 117 عملية للتنظيم أسفرت عن مقتل 272 من قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وعززت هذه الاحصائيات رتماً تصاعدياً لتأثير التنظيم منذ خسارة معاقله الحضرية في سوريا وانكفائه في الصحراء وأطراف المدن، ليدفع المشهد الحالي جملة من التساؤلات عن أهداف التنظيم القريبة والبعيدة، وثقله الحقيقي في المعادلة الأمنية، التي تٌشير إلى حضور ليس هامشياً خاصة في وسط سوريا وعلى الحدود السورية -العراقية.

كيف يعمل التنظيم

يستفيد التنظيم من عاملين متداخلين في صياغة العمليات التي ينفذها، الأول يتعلق بحضوره في منطقة البادية السورية التي تتميز بأنها بوابة دخول لمعظم المحافظات السورية وتحوي الطرق الرئيسية التي تربط بين شرقي سوريا وجنوبها والطريق الثاني الذي يصل بين الشمال (محافظة حلب) وصولاً حتى العاصمة دمشق، ولا يمكن فعلياً للنظام السوري والميليشيات الإيرانية الاستغناء أو استبدال هذه الحركة بطرق ثانية، والعامل الثاني المرتبط بالأول إن التنظيم مازال يمتلك تفوقا ميدانيا في معارك البادية، وهذه تعود لقاعدة أصولية في العمل العسكري تتعلق بصعوبة المواجهة بين القطع العسكرية النظامية أو التي تتحرك وفق نظام الجيش ضد المجموعات العسكرية التي تعمل وفق عقلية العصابة، هذه القاعدة تُبقي النظام السوري والميليشيات الإيرانية في الغالب في حالة الدفاع أو الاحتماء، بينما التنظيم الذي لا يملك مواقع ظاهرة وطرق ثابتة تُشكل نقاط ضعف وخواصر رخوة، يتحرك بأريحية وخفة عالية مباغتاً النقاط والأرتال بضربات سريعة ثم الانسحاب دون ترك أي فرصة للطرف الآخر في الرد الهجومي أو الملاحقة خوفاً من الدخول في كمائن معدة من قبل التنظيم في عمق البادية.

واقعياً، هذه العمليات غير مكلفة للتنظيم ليس فقط من ناحية الأعداد، فهي لا تحتاج إلا لمجموعتين أو ثلاث على أبعد تقدير تنقسم واجباتها بين الهجوم والإسناد وتأمين الانسحاب، ولا حتى من الناحية اللوجستية أو التسليحية، في معظم الأحيان أسلحة فردية أو متوسطة القدرات مع دراجات جبلية وعربات (سيارات) رباعية الدفع، تُشكل هذه المنظومة كابوساً حقيقياً للنظام السوري والميليشيات الإيرانية وأيضاً قوات سوريا الديمقراطية، ويجاهد التنظيم في المحافظة على وتيرة عمليات متتالية بغية عدم السماح للطرف الآخر بأي إجراءات دفاعية كبيرة أو حتى التفكير في تغيير الواقع الحالي بتولي زمام المبادرة بالهجوم والملاحقة، وحقيقة إذا ما حافظ التنظيم على هذا النسق فإن عامل التفوق الميداني سيبقى مُشكلاً صُلب الاستراتيجية الحالية للبقاء ضمن دائرة التأثير الأمني للجغرافية السورية، مستفيدا أيضاً -إضافة لما سبق- من عوامل أخرى:

-تعدد الأطراف العاملة والمؤثرة في المشهد العام السوري، هذه الأطراف وإن اتفق بعضها على خطوط مرسومة في التحالفات فخصوصية المصالح التي تعمل لأجلها، تجعل التنظيم يكون ضمن الأدوات المستخدمة ضد بعضها البعض، وهنا لا تٌشير الوقائع الميدانية إلى أن التنظيم بات منفذاً لأجندات خاصة لأحد الأطراف، بل إن الظرفية الأمنية سمحت لهذه الأطراف أن تملك نفوذية جيدة على بعض مفاصل التنظيم أو تستطيع امتلاك آلية توجيه غير مباشرة، وربما هذه النقطة تتفوق بها الولايات المتحدة الأميركية علي غيرها في بادية الشامية، حيث لم يُسجل أي هجوم للتنظيم على قاعدة التنف العسكرية أو منطقة 55، مما يعني أن التنظيم يفهم جيداً بضرورة تحييد ضغط القوة العسكرية الأميركية في هذه المنطقة والتفرغ لهجمات ضد النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وبالمقابل تلتقي استراتيجية التنظيم مع فائدة لقاعدة التنف بتشكيل خط دفاعي أو إشغال عملياتي ضد الميليشيات الإيرانية التي استهدفت حضور القوات الأميركية مرات متعددة، وفي الاعتراض المتوقع على الفكرة السابقة حول واقعيتها من الهجمات التي ينفذها التنظيم ضد قوات سوريا الديمقراطية، فربما يرجع السبب أن إدارة قواطع وخلايا التنظيم في منطقة شمال شرقي سوريا (شرق الفرات) تعود أكثر لقيادة التنظيم في بادية الحضر جنوبي محافظة الموصل العراقية، بينما البادية الشامية (غرب الفرات) ملتزمة أكثر بقيادة (ولاية الشام) وهذا الاختلاف بين المنطقتين هو في التطبيق المعمول به ميدانياً وليس تنظيمياً.

-فشل الإدارات المدنية التي أنشئت بعد إعادة السيطرة على المناطق التي كان يوجد بها التنظيم في تحقيق استقرار اجتماعي، حيث إن مدن محافظة دير الزور (دير الزور، الميادين، البوكمال) تٌعاني من سطوة كبيرة من قبل الميليشيات الإيرانية ومحاولات واسعة لعمليات تغيير ديموغرافي وديني وهذا يتعارض كلياً من الموروث التاريخي للمنطقة، بالمقابل فإن مناطق شمال شرقي سوريا رغم الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها المنطقة من إنتاج للنفط والغاز ومساحات زراعية ليست بالقليلة إلا أن الإدارة الذاتية أهملت بشكل ملموس تخديم المنطقة بما يتوجب واعتمدت أسلوب إدارة يتنافى مع هوية المجتمع، وهذا ساعد التنظيم على استخدام هذه الورقة بعمليات التجنيد وسرعة في استخدام المجندين بالعمليات ضد الأطراف الأخرى.

-الحركة المضطربة للميليشيات الإيرانية وإجبارها على تغيير مواقعها باستمرار نتيجة الضربات الجوية التي تتلقاها من الطائرات الإسرائيلية أو الولايات المتحدة الأميركية، يستغلها أحياناً التنظيم لشن هجمات على الأرتال والنقاط العسكرية وهذا الذي حدث في جنوبي سوريا ومحيط مدينة البوكمال على الحدود العراقية، يَدل ذلك على مراقبة مستمرة من قبل القواطع والخلايا الأمنية للتنظيم على التحركات العسكرية، وأي فوضى تحدث تكون إيذاناً لعملية تقوم بها سرايا العمليات المتقدمة.

-ضعف الأداء العسكري خاصة لمجموعات جيش النظام وتحديداً الفرقة 25 قوات خاصة المدعومة من قبل روسيا والتي زجت بها في معارك البادية ضد التنظيم، لم تتمكن هذه المجموعات من تحقيق أي تقدم مذكور ورغم إسناد الطائرات الروسية لها إلا أنها مازالت في مرحلة الدفاع والتراجع أحياناً خاصة في الجهة الشمالية من مدينة تدمر فيما يعرف ببادية (الكوم).

ما هو الممكن عسكرياً للتنظيم

في بداية شهر نيسان/ أبريل أصدرت القيادة المركزية للولايات المتحدة الأميركية (سنتكوم) تقريراً أشارت فيه أنها نفذت 94 عملية ضد مسلحي تنظيم داعش في العراق وسوريا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، بالمشاركة مع قوات الأمن العراقية وقوات سوريا الديمقراطية، أدت لمقتل 18 واعتقال 63 من عناصر التنظيم، واعترف التقرير أن الجهود الرامية لملاحقة 2500 في كلا البلدين مازالت مستمرة، وبمقارنة بسيطة من حيث العمليات ونتائجها بين الطرفين في ذات الفترة الزمنية، تبدو النتائج تميل لصالح التنظيم -بعيداً عن هوية الأشخاص المستهدفين- عززت هذه النتائج الدراسات التي تتابع سير عمليات التنظيم، والتي أشارت معظمها لتطور ملموس في مقدرة التنظيم منها التقرير الذي نشره موقع (فويس أوف أميركا) الذي أكد فيه الكاتب إن هناك علامات مثيرة للقلق تٌشير إلى أن تنظيم الدولة يزداد قوة في سوريا، ومن جهة أخرى يمكن قراءة المشهد لبعض العمليات التي يقوم بها التنظيم أنها تٌبر بالفعل عن استراتيجية متبعة وليس تكتيكات يفرضها الواقع، على سبيل المثال نفذ التنظيم في الثامن من الشهر الحالي هجوماً على موقع للميليشيات الإيرانية جنوبي مدينة الميادين في محافظة دير الزور، وتمكن من قتل كل عناصر الموقع البالغ عددهم 11 وهذا الموقع يقع ضمن المدينة وليس أطرافها، أي إن التنظيم تمكن من كسر خطوط الدفاع ونقاط الارتكاز على أطراف المدينة، وإذا ما أراد الاستكمال نحو عمق المدينة فإن المهمة لن تكون بالغة الصعوبة، مستفيدا أيضاً من التوقيت الليلي المعتاد على شنّ عملياته فيه، وتكررت هذه الحادثة المشابهة في مواقع أخرى مثل السخنة بريف محافظة حمص، والهجوم المزدوج على قريتي (القصبي، البويطية) شمالي بلدة المسرب في ريف دير الزور الغربي، لتدفع هذه الحوادث نحو سؤال منطقي، لماذا لا يقوم التنظيم بالسيطرة على هذه البلدات والقرى التي يهاجمها؟ مع إشارة إلى أن الوقائع تسمح له عسكرياً بذلك، وتعود الإجابة على هذا التساؤل للاستراتيجية التي يتبعها حالياً التنظيم والتي تٌشير لإبقاء حضوره من خلال العمليات السريعة والمتكررة، وكبح جماح بعض القيادات الميدانية وخاصة السورية منها بالسيطرة الظاهرية التي تسهل للأطراف الأخرى إعادة مهاجمتها والقضاء عليها، ولتحقيق هذه الاستراتيجية يبدو أن التنظيم اعتمد على نهج إدارة (الجزر المنفصلة) بإضعاف المركزية الميدانية لصالح إعطاء هامش جيد للقواطع للتحرك وتنفيذ العمليات، ويتفادى التنظيم الآفخاخ التي تسهل له دخول المدن والبلدات ثم توجيه ضربة له، يتمكن بذلك من إبقاء تأثيره حاضراً ينسف به أي إعلان بانتهاء التنظيم ودوره، مرحلياً يبدو هذا الأقرب للحدوث، مع بقاء احتمالية تغيير الاستراتيجية مستقبلاً لكن لن يكون بإرادة كاملة من اللجنة المفوضة التي تقود التنظيم، بل تغييرات (إن وقعت) للعلاقة بين الأطراف الأخرى، خاصة بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإيران من جهة ثانية.