في العاشر من آذار الفائت، أُعلن من بكين عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بعد قطيعة استمرت سبعة أعوام منذ 2016، كانت من طرف المملكة، عقب الاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديّة في إيران.
الاتفاقية السعودية الإيرانية بحد ذاتها لم تكن مفاجئة، فقد سبق ذلك عدة جولات من المفاوضات بين البلدين جرت في العراق، ولكن المفاجأة كانت الرعاية الصينية للاتفاق. ومع غياب تفاصيل الاتفاقية، يصبح من الصعب وضع قراءة دقيقة لها، وما هي المخرجات المتوقعة منهاـ مع العلم أنّ بعض هذه المخرجات بدأت بالظهور تباعاً.
وبعيداً عمّا يتعلّق بالأمور الثنائية بين السعودية وإيران، بدأت الحلحلة في ملف اليمن المتعثر منذ سنوات، بسبب تعنّت الحوثيين وامتناعهم عن تطبيق أي مبادرة للحل.
اليوم وبعد اتفاق بكين زاد منسوب التفاؤل من اقتراب التوصّل إلى حل في اليمن، والبدء بتنفيذ خارطة طريق للوصول إلى حل سياسي، وتحويل الهدنة الراهنة في اليمن (انتهت الهدنة الرسمية في تشرين الأول الماضي، لكن الفصائل المتناحرة استمرت في احترام الشروط إلى حد كبير، مع انخفاض حاد في الضربات الجوية التي يشنها التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن وهجمات الحوثيين عبر الحدود)، إلى حل سلمي دائم.
ما ينطبق على اليمن ينطبق على الملفات الأخرى، فالملف السوري الذي عاد الحراك العربي له، ورأينا وزير خارجية النظام السوري في جدة، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ العام 2011، حيث بدأت السعودية في مسعاها لإيجاد حل سياسي له ولإعادة النظام إلى جامعة الدول العربية..
وإن كان التوصّل إلى حل دائم فيه الكثير من التفاؤل، فالصراع في اليمن وإن اتخذ طابعاً إقليمياً ودولياً، إلا أنه في الأساس صراع محلي قبلي، وحتى في اللحظات التي كان المحادثات بين السعودية والحوثيين تحرز تقدماً، كانت المعلومات الواردة من اليمن تؤكّد استمرار الحوثيين بتوسيع عمليات التجنيد وتخزين الأسلحة حتى خلال الهدنة، العام الماضي، لذلك سيكون من المتوقع أن يعود الصراع من صراع إقليمي إلى صراع محلي كما كان في عام 2015، وقد يجعل هذا الأمر الصراع أكثر سوءاً على اليمنيين.
وما ينطبق على اليمن ينطبق على الملفات الأخرى، فالملف السوري الذي عاد الحراك العربي له، ورأينا وزير خارجية النظام السوري في جدة، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ العام 2011، حيث بدأت السعودية في مسعاها لإيجاد حل سياسي له ولإعادة النظام إلى جامعة الدول العربية، والذي يبدو أنّه أمر ما زال يواجه بالرفض من بعض الدول العربية، بدا واضحاً غياب الحديث عن القرارات الدولية وتحديداً القرار 2254 عند الحديث عن الحل، في حين برز الحديث عن وقف اللاجئين والميليشيات الأجنبية، وتهريب المخدرات والكبتاغون إلى الدول العربية.
فبعيد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق في جدة للتشاور بشأن إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، أكّد المجتمعون في بيانهم الختامي على أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية.
وأشار البيان إلى أهمية حل الازمة الإنسانية وتوفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات إلى جميع المناطق في سوريا، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وإنهاء معاناتهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم، واتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية.
وشدّدوا على أهمية مكافحة الإرهاب بكل أشكاله وتنظيماته، ومكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، وأهمية قيام مؤسسات الدولة بالحفاظ على سيادة سوريا على أراضيها، لإنهاء الميليشيات المسلّحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري.
وفي حال افترضنا أنّ هذا النص طُبّق بحذافيره فهذا يعني إعادة الصراع في سوريا إلى داخل الحدود السورية، ومحاولة إنهاء آثاره الإقليمية من ملف اللاجئين إلى ملف تهريب الكبتاغون، الذي استعمله النظام السوري وإيران وميليشياتها كأحد الأسلحة الموجّهة إلى الدول العربية وخصوصاً السعودية.
أما الملف اللبناني وهو أحد الملفات المتأثّرة بالخلافات والتفاهمات السعودية الإيرانية، فلم يرشح الكثير عنه بعد، ولكن لا وجود لأي أوهام تتعلّق بالدور الداخلي لـ"حزب الله" (الابن الشرعي للنظام الايراني)، فمن المتوقع أن تتراجع حدة خطابات أمينه العام وظهر هذا التراجع في خطاباته الأخيرة، وقد تخف حدة تدخلاته الإقليمية ولكنها بالطبع لن تتوقف، والأكيد أن سيطرته على الحياة السياسية اللبنانية ستستمر.
يبقى اتفاق بكين هو نتيجة طبيعية لغياب الدور الأميركي الفاعل في المنطقة، والتي بدت وكأنها ترغب في إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حال انتهائها من ملفات بالنسبة لها أكثر أهمية، ولكن لكل دولة أولوياتها.
قيل إن الاتفاق هو أوّل تدخل سياسي مباشر للصين في المنطقة، وبكين لن تتدخل ما لم تملك الأدوات لضمان نجاح وساطتها وهذا صحيح، ولكن كل جهة فسّرت الاتفاق كما تتمناه أو تراه، ويبقى اتفاق بكين هو نتيجة طبيعية لغياب الدور الأميركي الفاعل في المنطقة، والتي بدت وكأنها ترغب في إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حال انتهائها من ملفات بالنسبة لها أكثر أهمية، ولكن لكل دولة أولوياتها.
قبل أيام ذكّر الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي آرون ديفيد ميلر، بكلام وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، يوم قال ممازحاً: "إنّ السعودية لم تعقد زواجاً كاثوليكياً مع الولايات المتحدة، بل زواجاً إسلامياً يسمح بتعدّد الزوجات، فالمملكة لا تريد الطلاق من واشنطن، بل ترغب فحسب في إقامة علاقات مع دول أخرى"، واليوم تتجلّى بوضوح مقولة الفيصل لا مع الصين فحسب، بل أيضاً سبق أن تجلّت بعلاقة السعودية مع روسيا.