عاد الحديث في الشارع العراقي وفي العديد من وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية حول إمكانية تفعيل الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين قوات الاحتلال الأميركي وحكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في العام 2008، والتي صدّق عليها البرلمان بتاريخ 27/11/2008، والغريب أن هذا الاتفاق اعتبرته حكومة المالكي، حينذاك نصرا لها!
وهذه الاتفاقية كما يقال عنها نظمت "الوجود المؤقت لقوات الولايات المتحدة الأميركية في العراق وأنشطتها فيه"!
وقبل أن نتطرق لبعض ما يهمنا في هذه المرحلة من آثار وتبعات الاتفاقية الأمنية نسلط الضوء على حقيقة عسكرية وسياسية تتمثل بأن الجانب الأميركي أُجبر على توقيع الاتفاق الأمني بعد أن فقد أكثر من أربعة آلاف ونصف من مقاتليه وفقا للإحصائيات الرسمية الأميركية، وهنالك من يتحدث عن عشرات آلاف القتلى الأميركيين عدا المعوقين والمرضى النفسيين نتيجة ضربات المقاومة العراقية.
وبالنتيجة استثمرت حكومة المالكي هذه الضغوطات الشعبية الداخلية والخارجية على الإدارة الأميركية لتوقيع الاتفاقية الأمنية الغامضة!
وبالعودة للاتفاقية نجد أنها لم تنفذ حينذاك
رغم الإعلان عن انسحاب قوات الاحتلال الأميركي (الكامل) نهاية العام 2011، وكانت مجرد خطوة تكبيلية لإيقاع العراق بدهاليز جديدة ولمراحل طويلة قادمة، مع تأمين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) على تقليل خسائر عناصرها في العراق عبر انسحاب غالبية تلك القوات!
والحديث عن بقاء أعداد ليست قليلة من القوات الأميركية داخل العراق، ليس نسجا من الخيال بل حقيقة ناصعة في الميدان العراقي.
وقد ذكرت قناة الحرة الأميركية عبر تقرير لها في السادس من كانون الأول/ يناير 2020 أنه ورغم عدم نشر معلومات حول أماكن وجود القوات الأميركية في العراق من قبل الجهات الرسمية الأميركية بهدف حمايتهم، فإن تقارير إعلامية تتحدث عن توزع الجنود الأميركيين في 12-14 قاعدة عسكرية داخل العراق!
أين هو الانسحاب الأميركي مع هذه القواعد التي تغطي غالبية مدن العراق وفيها قوات على أهبة الاستعداد لتنفيذ أي واجبات داخل العراق وخارجه؟
وتتوزع تلك القواعد في شمال العراق وغربه، وهي قواعد (عين الأسد) و(الحبانية) في محافظة الأنبار الغربية، و(كركوك، K-1) بكركوك شمالي بغداد و(ألتون كوبري) غربي كركوك، وقاعدة (بلد الجوية) بمحافظة صلاح الدين شمالي بغداد، و(القيارة) جنوبي الموصل، وهي من أكبر القواعد العسكرية الاستراتيجية والتي تضم مطارا عسكريا هاما، و(فكتوري) قرب مطار بغداد، وقاعدة (التاجي) شمالي بغداد.
وهنالك أربع قواعد في كردستان العراق، وهي قاعدة قرب سنجار بالموصل، وأخرى قرب أتروش والحرير، وهنالك قاعدتان بمدينة حلبجة في السليمانية قرب الحدود الإيرانية.
فأين هو الانسحاب الأميركي مع هذه القواعد التي تغطي غالبية مدن العراق وفيها قوات على أهبة الاستعداد لتنفيذ أي واجبات داخل العراق وخارجه؟
وعند مراجعة ديباجة الاتفاق الأمني، والمواد الأولى والرابعة والتاسعة والسابعة المتعلقة بوضع وخزن المعدات الدفاعية والمادة الثانية عشرة المرتبطة بالولاية القضائية والمادة السابعة والعشرين والمرتبطة بردع المخاطر الأمنية وغيرها من تفاصيل الاتفاقية سنلاحظ أن الاتفاقية جعلت العراق بابا مشرعا للقوات الأميركية يمكن أن تعود إليه بالعديد من الحجج غير المقنعة أحيانا ومنها حماية العراق من الإرهاب!
والاتفاق الأمني العراقي الأميركي لم يكن محل ترحيب إيراني، وفي الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2008، وصف نائب رئيس هيئة الأركان الإيرانية مسعود جزايري الاتفاقية التي كانت في طور التحضير بـ"وصمة عار في تاريخ العراق"، وأن وسائل الدعاية والحرب النفسية التي تشنها أميركا وحلفاؤها لدفع الحكومة العراقية للتوقيع على الاتفاقية، لن تخدع الشعب العراقي".
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على توقيع الاتفاقية الأمنية حاولت بعض الكتل النيابية القريبة من إيران في أيلول/ سبتمبر 2019 تعديل أو إلغاء الاتفاقية الأمنية، وذلك في أعقاب ضربات لطائرات مسيّرة لمعسكرات الحشد الشعبي وقد اتهمت إسرائيل بالوقوف وراءها، بينما اتهمت واشنطن بأنها لم تتصد للطائرات!
وإلغاء الاتفاقية الأمنية ليس أمرا هينا، لأنها أخذت الصفة الدولية ولا يمكن للبرلمان إبطالها، ولكن يمكن للجانب الحكومي العراقي، وفقا للاتفاق أن يخبر واشنطن برغبته بإنهاء الاتفاقية وبعد سنة من الإنذار تعتبر الاتفاقية ملغاة بموجب القانون الدولي وبموجب شروط ذات الاتفاقية التي أعطت لكلا الطرفين حق الانسحاب بعد سنة من تبليغ الطرف الآخر!
ثم هل ستقبل واشنطن بهذا الخيار العراقي، فيما لو أرادت القوى الفاعلة ببغداد تطبيقه، والذي ربما سيجهض كل ما تم ترتيبه بين الطرفين؟
وبعيدا عن فرضية إلغاء الاتفاقية البعيدة الوقوع في هذه المرحلة لوحظ أن السفيرة الأميركية الجديدة ببغداد آلينا رومانوسكي التقت محمد شياع السوداني رئيس الوزراء الحالي لأكثر من ثمان مرات، نصفها قبل تسلمه منصب رئاسة الحكومة، وآخرها يوم 20/11/ 2022، وكانت تهدف لإدامة التعاون الثنائي في الحرب على الإرهاب، ودراسة "واقع العلاقات المشتركة، وسبل تطويرها وتعزيز الشراكة القائمة على مختلف الصعُد والمجالات"!
وهذه التصريحات الدبلوماسية للقاءات لا يمكن الاقتناع بها، وربما هنالك إملاءات أو ضغوطات أميركية على السوداني بالذات مع هذا الكم من اللقاءات مع رئيس السلطة التنفيذية!
ولم تتوقف تحركات السفيرة الأميركية عند هذا الحدّ وحسب، بل التقت يوم 22/11/2022 مع محافظ البنك المركزي العراقي، ومدير المصرف العراقي للتجارة!
فهل يحق لها بروتوكوليا أن تجري لقاءات كهذه؟
مع استمرار هذا القصف الإيراني والتهديدات المتكررة باجتياح العراق هنالك دعوات لتفعيل الاتفاق الأمني، والدور الأميركي لوقف الهجمات الإيرانية المتنامية!
ومنذ عدة أشهر هنالك اختبار حقيقي لتطبيق الاتفاق الأمني بين بغداد وواشنطن، وربما هو اختبار أيضا لحكومة السوداني القريبة من إيران، ويتمثل الاختبار باستمرار الهجمات الإيرانية على أراضي كردستان العراق، والذي أوقع العديد من الضحايا في صفوف المدنيين بحجة ضرب مقار الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة والمستقرة داخل العراق!
ومع استمرار هذا القصف الإيراني والتهديدات المتكررة باجتياح العراق هنالك دعوات لتفعيل الاتفاق الأمني، والدور الأميركي لوقف الهجمات الإيرانية المتنامية!
والمخاوف من الهجمات الإيرانية ليست عراقية فقط، حيث طالب النائبان الجمهوريان جاي ريشنثالر ومايك والتز، يوم 24/11/2022، إدارة الرئيس جو بايدن، بالرد على الهجمات الإيرانية الأخيرة، وردع أي هجمات أخرى مستقبلية لحماية المصالح الإقليمية الأميركية!
ويبدو أن إيران مصرّة على هجماتها حيث إنها تجاهلت الاستنكارات العراقية والأميركية لضربات صواريخها وطائراتها المسيّرة، وعادت ظهر الثلاثاء 22/11/2022 لتنفذ هجمات جديدة في كركوك والسليمانية!
وقد حاولت طهران تبرير هذه الهجمات، حيث ذكرت وكالة تسنيم الإيرانية أن هجوم الثلاثاء استهدف "قاعدة جماعة إرهابية انفصالية قرب كركوك تعرف باسم حزب الحرية الكردستاني بصواريخ وطائرات مسيّرة انتحارية"!
ومع هذه الهجمات والانتهاكات المستمرة هل ستطالب حكومة بغداد القريبة من طهران بتفعيل الاتفاق الأمني مع واشنطن لحماية السيادة الخارجية، أم أن الهجمات تمّت بالاتفاق المسبق معها على الرغم من بيانات الاستنكار والإدانة؟
يبدو أن الاتفاق الأمني بعد أكثر من عقد ونصف على توقيعه هو انتداب أميركي دائم على العراق، وإلا فإن كان العراق بحاجة للقوات الأميركية لحماية (سيادته) وفقا لفقرات الاتفاقية الأمنية فما الغاية من التشكيلات الرسمية العسكرية العراقية أصلا؟
ولماذا الإنفاق الضخم على وزارتي الدفاع والداخلية ودوائر الأمن الوطني وغيرها من المؤسسات العسكرية والأمنية؟
المخرج الحقيقي للعراقيين من هذه الاتفاقية المجحفة يتم عبر حكومة وطنية الانتماء والولاء، وقوية الإرادة تعيد ترتيب الأوراق المتناثرة، وتبطل الاتفاقية الأمنية مع واشنطن وتسعى لبناء منظومة عسكرية تحافظ على السيادتين الداخلية والخارجية للبلاد!