إيران الدولة غير إيران الثورة؛ للثانية مشروع، أما الأولى فهي لم تتشكّل بعد، وإن كانت قد روّجت كثيراً لتحوّلها من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، عبر زعمها أنها تبني مؤسسات وهياكل نظامية ومشاريع، تبدأ بالنفط ولا تنتهي عند فيلم النووي الإيراني - الأميركي الطويل.
إيران الثورة المزمنة، لم تسمح للدولة بالنشوء، لا يمكنها القيام بذلك، فهي تتعارض مع مفهوم "الدولة" من جذره إلى منتهاه، ولهذا كان تصدير الثورة. وكان طبيعياً لكيان الحرس الثوري ـ الميليشيا، المستقلة حتى عن مؤسسة الجيش الإيراني، أن يصبح آلة إنتاج لميليشيات تهدم الدول المجاورة لها، ولبنان والعراق وسوريا واليمن نماذج ساطعة على ذلك.
كشف الموت الدرامي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، رئيس الجمهورية الإسلامية (المفترضة) في إيران، خلل بنية الدولة، لا الخلل التقني وحسب، الذي يعدّ فضيحة الفضائح لهذا الكيان الذي دأن على تهديد كل من حوله، وبثّ الرعب يميناً ويساراً، بل خلل الهيكل الداخلي الذي يديره المرشد من الأعلى، وكل ما عداه مجرّد أدوات تخدم سلطة الإمام الغائب ووكيله على الأرض في قمة الهرم.
سيموت في طائرة أميركية الصنع، بعد أن تستنجد دولته بالأميركيين للمساعدة في العثور على طائرته المفقودة، لأن تقنيات الإيرانيين ليست بتلك الكفاءة اللازمة للعثور على طائرة رئيس جمهوريتهم.
وسواء كان مقتل رئيسي قضاءً وقدراً، تسببّت به "الطبيعة الأم"، أو كان حادثاً مدبّراً تسببت به "طبيعة النظام الإيراني" وتناقضاته، فإن الحادث قد وقع وانتهى الأمر، أو لعلّه بدأ للتوّ.
إيران التي ابتلعت في القرن الماضي العديد من الكيانات لتعيد إنتاج إمبراطوريتها الفارسية البائدة، عجزت عن استيعاب دورها الحالي في الجغرافيا والتاريخ، فهي القوة العائدة أيامَ الشاه، على شكل شرطيّ للمنطقة متحالف مع الغرب، شرطي تآمر عليه حلفاؤه أنفسهم، لم يكن لديه أي مشروع سوى مشروع من سيثورون ضدّه لاحقاً، أي الملالي، الذين سيواصلون محاولة لعب دور الشرطي الإقليمي، عبر برنامج الشاه النووي الذي أسس له الأميركيون قبل مجيئ خميني.
العجز عن استعياب الدور في المكان والزمان، يخلق الحالة التي عاشته إيران حتى ما قبل مقتل رئيسي، ولعلّ أبرز تجلياته أن رئيس جمهورية تقود محور المقاومة والممانعة الذي يرفع شعار الموت لأميركا، سيموت في طائرة أميركية الصنع، بعد أن تستنجد دولته بالأميركيين للمساعدة في العثور على طائرته المفقودة، لأن تقنيات الإيرانيين ليست بتلك الكفاءة اللازمة للعثور على طائرة رئيس جمهوريتهم، وليأتي الأتراك ويمدوا يد المساعدة بطائرة مسيّرة سرعان ما ستكشف عن مكان حطام الطائرة وتعود أدراجها مؤدية رقصة الشعار التركي وراسمة النجمة والهلال في مسارها.
أعادت حادثة مقتل رئيسي إيران إلى حجمها الطبيعي، في نظر خصومها كما في نظر الشيعة العرب وبقية أذرعها في المنطقة، فأيّ تقدّم هذا الذي كانت تبشّر به إيران أتباعها في البلدان التي تحتلها؟ إذ إنه لم يكن كافياً انهيار تلك البلدان وتفشي الفساد فيها، وتدمير الاقتصاد والتعليم والصحة وجفاف الأنهار وخراب المحاصيل الزراعية، وتفكك المجتمعات، فكان لا بدّ من دليل جديد من إيران نفسها، دليل يتصل بأمن صاحب أعلى منصب في هيكل الدولة، لا الثورة، يضيع في الجبال والأدغال وينتهي محترقاً مع وزير خارجيته.
ما هي الضمانات التي ستقدمها إيران اليوم لمحورها، غير ما رآه رعايا هذا المحور بأعينهم؟ وماذا تبقى بيد خامنئي ليزوّدهم به بعد هذا الخراب؟ وقد يكون الخراب بحد ذاته مشروعاً في فلسفة الثورة الخمينية، من يدري؟
لم تظهر بعد تداعيات احتراق رئيس جمهورية محور المقاومة، ولكنها لن تتأخر كثيراً؛ فمن دونها، وقبل أن تحدث، كانت إيران قد بدأت تتهاوى باقتصاد متهالك، وببنية اجتماعية مفتتة، وتمرّد داخلي، وصراعات على السلطة، هذا على مستوى الداخل، أما في الدول التي أرادت طهران أن تسميها نطاق النفوذ الإيراني، فالتمرّد الشيعي العربي كان قد بدأ قبل سنوات في العراق، والتذمّر من التبعية المطلقة لإيران التي جرّ حزب الله ونصر الله لبنان بطوائفه، وصل ذروته حتى عند الشيعة ومراجعهم، ولم تنفع الاغتيالات ولا تغييب المفكرين والأئمة من كبار المؤثرين إلا بإعطاء عمر النفوذ الإيراني جرعات إعاشة، لا أكثر، وفرصة تلو الفرصة كان من الطبيعي أن تهدرها الدولة - الميليشيا التي تبني وجودها كله على قضية ليست قضيتها، القضية العربية الفلسطينية.
ولطالما تساءلنا في الأعوام الماضية؛ هل تستطيع إيران بالفعل التورّط في خوض حرب مباشرة مع الإسرائيليين؟ وحين توجّب أن تفعل ذلك، بدا الأمر وكأنه نوع من الأداء الطقسي الذي لم يقدّم ولم يؤخر في ميزان القوى، ولم يُرجع القيادات الإيرانية الذين قتلتهم إسرائيل إلى الحياة ثانية.
لكننا كنا نرى أن القدم الإيرانية تنزلق بسهولة وبشكل غير محسوب، في مستنقع العنف الذي أنشأته من حولها. وسنذكّر إيران اليوم ومجدداً، بنظرية رئيس المجلس الوطني الإيراني – الأميركي تريتا بارسي الذي شكّل تلاميذه فريق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لإعداد النسخة الأولى من الاتفاق النووي مع إيران. قال بارسي إن "إيران هي الصديقة الحميمة لإسرائيل، ولذلك علينا أن نحافظ على هذه الصداقة. لن تصدقوا هذا، كانت تلك الكلمات لرئيس وزراء إسرائيلي، ليس بن غوريون ولا غولدا مائير في عهد الشاه، بل إنه إسحاق رابين والحاكم الإيراني الذي عاصره كان أحمدي نجاد".
إلا أن ما لم تحسب له إيران حساباً، هو أن العالم يتغيّر بالفعل، والولايات المتحدة ذاتها تتغير، وبالطبع إسرائيل تتغيّر، وما كان بارسي يعتقد أنه يمكن أن يستمر على شكل "تحالف ضرورة" بين طهران وواشنطن وتل أبيب، التحالف العابر للأيديولوجيا الذي لا يتوقف على من يحكم في العواصم الثلاث، قد لا يكون بوسعه الصمود اليوم.
فيما يتعلق بسوريا على سبيل المثال، فالجمود السياسي، والتأخر التنموي، كفيلان بمنع حدوث أي تغيير يدمّر المعادلات المتفق عليها سراً وعلناً، إضماراً أو إفصاحاً.
حذَّرَنا بارسي مبكراً، من أن انهيار هذا الحلف، سيعني ضرراً كبيراً سوف تتلقاه الولايات المتحدة وإسرائيل قبل إيران. وهذا كان مبنيا على نظرية تفوّق اشتركت بها العواصم الثلاث، حيال المنطقة العربية.
والخبر الجيد وسط سيل الأخبار التعيسة القادمة من العالم العربي، أن سوق الاستهلاك الكبرى، ستجلب معها التقدّم شاءت أنظمة الحكم في العالم العربي ومعها سكانه أم أبوا، وفحوى ذلك التقدم التكنولوجي وسياقاته ومعناه أن العالم العربي يتغيّر، بينما ترى إيران أن من صالحها البقاء على ثباتها.
الأمر ذاته كانت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة تحاولان الحفاظ عليه، فيما يتعلق بسوريا على سبيل المثال، فالجمود السياسي، والتأخر التنموي، كفيلان بمنع حدوث أي تغيير يدمّر المعادلات المتفق عليها سراً وعلناً، إضماراً أو إفصاحاً.
ويعود المنطق الجيوسياسي ليتحكم بإيران في النهاية، لا فتاوى المرشد، وحين ظهر مشروع "الهندسة الأمنية للمنطقة العربية" قبل سنوات، كانت إيران في صدارته، وقدّمت المساعدة العسكرية التي وصفت بأنها "ذات قيمة" للقوات الأميركية وقوات التحالف في ما سمي بالحرب على الإرهاب، إلا أن هذا لم يعد صالحاً الآن. حتى حين أراد الإيرانيون فرض ما سموه بسياسة "فرض التكلفة"، عاشت تلك الاستراتيجية لوقت قصير، وأشاد بها مبعوث السلام الشهير والسفير الأميركي لدى إسرائيل لمرتين، مارتن إنديك، حينها وعلق بالقول إن "الإيرانيين فهموا الدرس بشكل صحيح".
ويجدر أن نتذكّر أنه بعد انتخابه رئيساً لوزراء إسرائيل في عام 1996 حاول بنيامين نتنياهو الاتصال بالإيرانيين لكي يعيد الحياة إلى ما وصَفَها بـ"عقيدة المحيط الجغرافي السياسية والأمنية"، حينها أهملت إيران طلب نتنياهو، لأن استثمارها في المعادلة العدائية للإسرائيليين أكثر ربحاً من استثمارها في أي "صفقة سلام".
لكن إيران ندمت، حين ظهرت مبادرة عربية للسلام، فسارع خامنئي إلى إرسال عرض إلى الرئيس جورج بوش الابن يقول إن إيران "على استعداد تام لإعادة العلاقات مع إسرائيل كما كانت عليه أيام الشاه"، وهذه المرّة تجاهل بوش العرض، والسبب بالطبع هو الاستثمار الأميركي في تهديد إيران للعرب.
في السنوات التالية، ظهرت العقيدة المشتركة مجدداً، في ما بين الإيرانيين والإسرائيليين، عقيدة "الدولة المتفوقة" على الجيران العرب، وهذه العقيدة تفرضها كلٌّ من طبيعة إسرائيل وإيران في الوقت ذاته، فالإيرانيون الشيعة، لا يزالون محاطين ببحر من العرب السنة، والإسرائيليون لا يزالون يشعرون أنهم مستوطنون أوروبيون وروس قدموا إلى الشرق الأوسط، والطرفان يريان أنهما بشكل ما منفصليَن عن هذه المنطقة، ثقافياً وحضارياً، وهذا الانفصال طائفي وعرقي وديني لكليهما، سيؤدي إلى تأجيجهما المتواصل للصراعات الطائفية والعرقية في العالم العربي.
يعود المنطق الجيوسياسي ليتحكم بإيران في النهاية، لا فتاوى المرشد، وحين ظهر مشروع "الهندسة الأمنية للمنطقة العربية" قبل سنوات، كانت إيران في صدارته، وقدّمت المساعدة العسكرية التي وصفت بأنها "ذات قيمة" للقوات الأميركية وقوات التحالف في ما سمي بالحرب على الإرهاب.
رأت إيران الثورة - الميليشيا، في الربيع العربي فرصة قد تتكرّر أمامها للانقضاض على الشعوب والدول، وقال الرجل الذي سيصبح وزيراً للخارجية بعد سنوات، ويموت مع رئيسه في الطائرة قبل أيام، حسين أمير عبد اللهيان في زيارة له إلى مصر مخاطباً كبار مسؤوليها "نحن في إيران الفارسية، وأنتم في مصر الفرعونية؛ نعتبر الحضارتين الوحيدتين في المنطقة، ولا تفصل بيننا سوى بضعة خِيَم"!.
ومع تنامي ظاهرة التطبيع العربي مع الإسرائيليين، والمجانيّ منه والمُغدِق في كرمه واندفاعه، عادت إيران إلى التلويح بعروضها. لكن بعد السابع من أكتوبر الماضي، واندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، اختلف الوضع تماماً، ونحن نعيش في هذه اللحظات أزمات حادة لقادة ذلك التفاهم المضمر، والجميع في طهران وواشنطن وتل أبيب ليسوا بخير، لذلك سيكون من الطبيعي أن نرى تصدّعات حادّة في إيران، ربما تكون غير قابلة للرأب، فنتنياهو المهزوم لن ينسحب من المشهد تاركاً خلفه خامنئي مطمئن البال، ولا الديمقراطيون في أميركا على استعداد للمغامرة بمنح ترامب نصراً انتخابياً وشيكاً.