طوال خمسة عقود من حكم حزب البعث لسوريا، وخاصة خلال فترتي الأسد الأب والابن كان الشعب السوري يدرك تماماً أنه أمام عدة خصوم خارجيين، في مقدمتهم الكيان الصهيوني الذي يحتل جزءا من الأراضي السورية، ويشكل تهديداً مستمراً للأراضي السورية، لكن بالتوازي مع هذا الخصم الخارجي كان هناك خصم داخلي ربما كان في نظر كثير من السوريين أكثر قبحاً وفجوراً من أي خصم خارجي، يهدد مستقبل البلاد والعباد.
الخصم الداخلي كان ومازال النظام الديكتاتوري وأذرعه الأمنية والعسكرية والإعلامية، والذي لم يتوان خلال هذه العقود الخمسة وخاصة خلال فترتي الأسد الأب والابن عن ارتكاب كل أنواع الموبقات بحق الشعب السوري.
ربما جرائم النظام طوال الخمسين سنة الماضية أكبر من أن تحصى في مقال صحفي، لكن سنتطرق في هذا المقال إلى جانب من المشهد العام في سوريا، والمتمثل بتعاطي النظام وماكينته الإعلامية مع معارضيه السياسيين أو من كان له رأي مخالف، وصولاً إلى اندلاع الثورة السورية وطريقة تعاطي النظام وجميع أبواقه مع مطالب الشارع السوري.
فتهم الخيانة والعمالة والنيل من هيبة الدولة كانت دائما جاهزة لكي تُلقى بوجه أي مواطن سوري ربما سولت له نفسه يوماً أن يعترض على أي موقف صغير من سلسلة المعاناة الطويلة التي كان يعاني منها المواطن السوري، بدءاً من الفشل الخدمي من كهرباء وماء وصحة وتعليم وو ..إلخ، وصولاً إلى الفساد الذي ينخر في جسد الدولة ومؤسساتها، والذي أفرز واقعاً اقتصادياً متردياً أثقل كاهل المواطن طوال هذه السنوات العجاف.
هذا فيما يخص الاعتراض على الأداء الحكومي الخدمي، أما الحديث عن موقف سياسي معارض فهذا سيكون جزاؤه مجموعة من التهم كالخيانة والعمالة للعدو الخارجي، قبل أن يتفتق ذهن النظام على تهمة جديدة تتناسب مع الواقع الدولي الجديد الذي تلا أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وهي تهمة (الإرهاب).
لم تقتصر التهم التي انهالت على الشعب السوري من قبل آلة النظام الإعلامية، بل تصدى بشار الأسد بنفسه لإطلاق جملة من التهم للشعب السوري كالحثالة والثيران والجراثيم والإرهابيين
وخلال الثورة السورية تفننت ماكينة النظام الإعلامية بإطلاق أبشع الصفات والتهم بحق الشعب السوري، من قبيل الخونة والإرهابيين والمرتزقة والمنحطين أخلاقياً والذين ينفذون مؤامرة خارجية، ولم تقتصر التهم التي انهالت على الشعب السوري من قبل آلة النظام الإعلامية، بل تصدى بشار الأسد بنفسه لإطلاق جملة من التهم للشعب السوري كالحثالة والثيران والجراثيم والإرهابيين، ولهذه التهم مجتمعة أصبح قتل هؤلاء الخونة والعملاء والإرهابيين واجب وطني، وتعذيب هؤلاء في السجون والمعتقلات ما هو إلى مكرمة من قبل الأسد.
وفي هذا المقام، وأمام هذا المشهد القاتم التي تعيشه سوريا يستحضرنا حديث الرسول الأكرم محمد "ص" عندما تحدث عن إحدى صفات المنافقين "إذا خاصم فجر" وهي صفة طبقها النظام السوري على أكمل وجه.
هذا الفجور الذي صبغ فترة حكم آل الأسد ضد معارضيه يمكن فهمه بأنه المنهج المتبع لدى معظم الأنظمة الديكتاتورية التي جاءت إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري ولو بنسب متفاوتة، لكن غير المفهوم والذي يحتاج إلى دراسة حقيقية هو أن يصبح الفجور والتهجم اللفظي والنعوت المشينة والتخوين والتكفير هو اللغة السائدة بين التيارات الفكرية والسياسية للمعارضة السورية، بل أحياناً ضمن التيار الواحد.
فأي مراقب لمواقع التواصل الاجتماعي التي ينشط فيها المعارضون السوريون سيجد أنها باتت ساحة مفتوحة بين الأفرقاء من المعارضة السورية، يتبادلون من خلالها سيلا هائلا من التهم والعنف اللفظي حول أي قضية خلافية، كما أصبح الخلاف الإيديولوجي مدعاة للتخوين والتكفير دون أي رادع وطني أو أخلاقي أو ديني.
لا شك أن الاختلاف بالرأي هو سنة من سنن الحياة، وهو ما تجلى بشكل عملي بتنوع القوى التي اصطفت خلف الثوار السوريين في شعاراتهم التي رفعوها بالحرية والكرامة، لكن هذا التنوع الذي شكل طوال فترة الثورة السورية شوكة في خاصرة النظام، وخاصة ضد الادعاءات التي ساقها من أن الثورة هي ثورة متشددين إسلاميين، يقودها إرهابيون من قبيل "القاعدة" و"تنظيم داعش"، ما لبث أن انقلب خلال الفترة الماضية إلى مماحكات بين هذه التيار وذاك، ثم تحولت إلى تحميل كل طرف للطرف الثاني مسؤولية ما آل إليه الوضع في سوريا، قبل أن تصل في كثير من المواقف إلى فجور في الرد على أي رأي أو أطروحة مخالفة.
فخلال الفترة الماضية تكررت العديد من حملات "الردح" التي شنها أصحاب هذا التيار أو ذلك ضد رأي مخالف تم طرحه من قبل شخص ما، وفي كثير من الحالات بين أبناء التيار الواحد، حتى بات حدثا مكررا أن نشهد حملات على وسائل التواصل الاجتماعي ضد أي طرح أو رأي مخالف، يتخللها سيل من التهجم بألفاظ نابية والتعرض بشكل شخصي لصاحب هذا الرأي والتيار الفكري الذي ينتمي إليه.
الاختلاف الفكري والإيديولوجي ظاهرة منتشرة لدى معظم شعوب العالم، لكن ما يحصل في الحالة السورية هو إقصاء فكري وعنف لفظي، يسعى من خلاله كل طرف لشيطنة الطرف الآخر، كأن يتهم التيار المحافظ وبالخصوص تيار الإسلام السياسي التيارات والأشخاص المخالفين بالكفر والردة والفجور والعمالة، بينما لا تتردد التيارات العلمانية باتهام الإسلاميين بالإرهاب والعمالة، وعلى تخوم هذين التيارين نجد مئات بل آلاف الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي لا تتوانى عن إطلاق سيل من الشتائم والألفاظ النابية يميناً وشمالاً وفق الإيديولوجيا التي يتخندقون خلفها.
شعار الحرية الذي هتف به السوريون كان واضحاً، ولم يعد بإمكان الشعب السوري تقبل فكرة تكميم الأفواه وانتهاك الحريات، وعلى وجه الخصوص حرية التعبير
وأمام تفاقم هذه الظاهرة لابد من وقفة متأنية لدراسة أبعادها ومآلاتها، ولتكن مرجعيتنا الأساسية هي الشعارات التي رفعها السوريون منذ بداية الثورة، وهي "الحرية" و"الكرامة"، فشعار الحرية الذي هتف به السوريون كان واضحاً، ولم يعد بإمكان الشعب السوري تقبل فكرة تكميم الأفواه وانتهاك الحريات، وعلى وجه الخصوص حرية التعبير، التي أصبحت مسلمة لدى أي شعب يطمح بأن يكون في مصاف الشعوب المتحضرة.
كما أن الكرامة كانت هي الأخرى أحد المطلبين الرئيسين للشعب السوري، وهي الأخرى يتم التعدي عليها من خلال هذه الحملات، التي غالبا ما تحمل في طياتها انتهاكا لكرامة السوريين إن كانوا أصاحب رأي أو تيار سياسي، يمثل شريحة واسعة من السورين.
في النهاية يجب أن ندرك كسوريين أن الثورة السورية جاءت لتقدم نموذجا مغايرا ومتطورا عما كان قائما في سوريا، مبنيا على احترام الإنسان السوري واحترام الاختلاف، وأن تكون لغة الحوار هي اللغة البديلة عن لغة التخوين والاتهام بالعمالة والإرهاب، أسوة بكل الأمم المتحضرة.