من المبكر الجزم بدقة توصيفات، من قبيل "موسكو تحجّم طهران في دمشق"، تعليقاً على إعادة الانتشار التي نفذتها الفرقة الرابعة، مؤخراً، في ريف دمشق، وقبلها في درعا، وفق تفاهمات مع روسيا، وفق ما تنقله المصادر المحلية. وقد يكون من المبكر أيضاً، الحديث عن توزيع نهائي لمناطق السيطرة بين الروس والإيرانيين، وبين أذرعهم "السورية" المقرّبة، من كلا الطرفين، في مناطق الجنوب السوري. لكن يمكن استنتاج قراءة أولية، من النمط المتكرر لإعادة الانتشار العسكري، تلك، مفادها أن روسيا تحاول جاهدةً إخلاء أكبر قدر ممكن من الجغرافيا السورية في الجنوب، من الوجود الإيراني، أو من "السوري" المحسوب عليه، في المدى الجغرافي القريب من إسرائيل (درعا، وأرياف دمشق، خاصة الغربي منها). وتُظهر انسحابات الفرقة الرابعة، من عدة مواقع، أنها تتجاوب مع الضغوط الروسية، بهذا الصدد، حتى لو كان ذلك يعني خسارة مواقع استراتيجية أو مُدرّة للربح.
إذ كان من المفاجئ، أن تُخلي الفرقة الرابعة، أقوى فرق "الجيش السوري"، التي يقودها شقيق رأس النظام، ماهر الأسد، 4 حواجز في ريف دمشق الغربي، أحدها في الديرخبية، منتصف كانون الأول/ديسمبر الجاري. خاصةً مع ما تردد في مصادر إعلامية سورية، عن نشاط زراعة الحشيش الذي ترعاه الفرقة الرابعة في تلك البلدة، عبر ميليشيات محلية مدعومة منها.
وقد بات من المعلوم، حتى في أوساط الإعلام الدولي، كـ "نيويورك تايمز"، والـ "إيكونوميست"، و"الغارديان"، وغيرها، أن ماهر الأسد، هو عرّاب زراعة الحشيش وصناعة الكبتاغون، وتجارتهما، على الأراضي السورية، بالتنسيق مع حزب الله اللبناني. وقد تحوّلت زراعة المخدرات وصناعتها وتجارتها، إلى ركيزة رئيسية من ركائز ما بات يُعرف بـ "اقتصاد الفرقة الرابعة"، إلى جانب كلٍ من الترفيق والترسيم وتجارة الخردة، وغيرها من النشاطات "الاقتصادية"، التي تجعل ذاك "الكيان العسكري"، وقيادته، أقرب إلى مافيا مسلحة، بحجم، فرقة عسكرية نظامية.
إذاً، تخلى ماهر الأسد عن إحدى مواقع زراعة الحشيش التابعة له، في ريف دمشق الغربي. بطبيعة الحال، لن يؤثر ذلك كثيراً على "اقتصاد" فرقته القائمة على هذه "الصنعة"، فهناك عشرات المواقع الأخرى لزراعة وصناعة المخدرات بسوريا. لكن تخلي شقيق الأسد عن إحدى المواقع التي تُدر عليه الأموال، يُؤكد رضوخه لضغوط بهذا الصدد، مما يُنبئ بأحد احتمالين: الأول أن داعمه الإيراني، أوعز له بالانسجام مع الرغبات الروسية. أما الاحتمال الثاني، أن يكون هو ذاته، ميّالاً للانسجام مع تلك الرغبات، كي لا يزعج "الإسرائيلي"، الذي يرى في فرقته –الرابعة- متراساً للنفوذ الإيراني داخل "الجيش".
وأياً كان الدافع وراء تخلي ماهر الأسد عن السيطرة على "الديرخبية"، فإن النمط الذي اتخذته انسحابات فرقته الأخيرة من مناطق محددة، وتسليم المواقع التي تم الانسحاب منها، في معظم الحالات، للمخابرات العسكرية "السورية"، المقرّبة من روسيا، وبتنسيق مع الشرطة العسكرية الروسية، يُنبئ بأن الغاية من وراء كل ذلك، هي تهدئة المخاوف الإسرائيلية حيال النفوذ الإيراني الميداني، قرب هضبة الجولان المحتلة.
فخلال الربع الأخير من العام الجاري -2021-، تخلت الفرقة الرابعة عن مواقع لها في عربين ومسرابا، بريف دمشق الشرقي، وفي الديرخبية وخان الشيح وزاكية، بريف دمشق الغربي، وفي محيط درعا البلد، وفي ريف درعا الغربي.
وفي بعض الحالات، انتقلت تبعية ميليشيات محلية – كما في عربين- من "الفرقة الرابعة" إلى "المخابرات العسكرية"، في إشارة إلى التخلي الكامل للـ "الرابعة" عن النفوذ في المناطق التي تم الانسحاب منها.
ولا يعني ما سبق، انسحاب أذرع إيران داخل "الجيش" و"المخابرات"، من كامل جغرافيا الجنوب السوري. إذ تشير مصادر محلية إلى أن المخابرات الجوية ضمنت مواقعها في شرقي درعا، مثلاً. وتتوافق معظم المصادر المطلعة على توصيف "الجوية" بأنها إحدى أذرع إيران. لكن ذلك يؤكد فرضية "إعادة الانتشار"، للقوى المحسوبة على إيران، سواء في "الرابعة" أو في "الجوية"، بعيداً عن هضبة الجولان.
ومن اللافت للانتباه، أن إعادة الانتشار تلك، والتي قد تهدّئ جانباً من المخاوف الإسرائيلية حيال التهديد الإيراني المنطلق من الأراضي السورية، أخذت تتم ببطء وروية، وبعيداً عن أي ضجيج إعلامي، باستثناء ما رصدته بعض المصادر الإعلامية والمحلية المعارضة. كما أنه تزامن مع تفاقم التوتر الروسي – الغربي، على حدود أوكرانيا، وتسارع وتيرة المفاوضات لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، في فيينا.
ما سبق يُنبئ بأن طرفين على الأقل -من ثلاثة أطراف-، يحاولان تهدئة الهواجس الأمنية الإسرائيلية، قرب هضبة الجولان، لغايات مرتبطة بمصالحهما بعيدة المدى.
الطرف الأول، المؤكد، هو روسيا، التي قررت مؤخراً القيام بخطوات جدّية، لكنها هادئة، لفرض تموضعات عسكرية وأمنية جديدة، تخفف من قدرة إيران على التحرك ميدانياً في الجنوب السوري، قريباً من المناطق المحتلة إسرائيلياً. وقد تكون من أهدافها بهذا الصدد، ضمان القناة الإسرائيلية للوصول إلى صنّاع القرار بواشنطن، علّ ذلك يساعدها في إقناع "الأميركي" بالقبول بالضمانات الأمنية التي تطلبها في الملف الأوكراني. وفي السياق نفسه، يمكن فهم الضوء الأخضر الروسي، الممنوح للإسرائيلي، كي يستهدف ميناء اللاذقية، القريب للغاية من مطار حميميم، للمرة الثانية خلال شهر.
أما الطرف الثاني المحتمل، والذي قد يكون من الساعين لتهدئة المخاوف الإسرائيلية، فهي إيران ذاتها. التي رغم نبرتها المرتفعة التي تهدد بـ "مواجهة واسعة وشاملة"، فهي تخشى أن تقرر إسرائيل قلب الطاولة على مفاوضي فيينا، وتشن ضربات للمنشآت النووية الإيرانية، تُجهض إمكانية إحياء الاتفاق النووي الإيراني من جديد، والذي يعني رفع العقوبات، وعودة الانتعاش إلى الاقتصاد الإيراني المُجهد.
أما الطرف الثالث المحتمل، فهو ماهر الأسد نفسه. الذي لا يملك مصلحة حقيقية في استمرار توصيفه بأنه رجل إيران في سوريا، من جهة، وعرّاب تجارة المخدرات، من جهة أخرى. ولا يعني ذلك أنه سيتخلى عن هاتين الركيزتين لقوته محلياً. لكنه قد يعمل على التعمية عليهما، والتخفيف من سطوع دوره في خدمة النفوذ الإيراني، وتجارة المخدرات، على الأقل، أمام القوى الخارجية. وقد يفيد "إرضاء إسرائيل" في تحقيق جانب من تلك الغاية.
وتبقى الاستنتاجات السابقة معلّقةً، بانتظار وضوح الوضعية النهائية لإعادة الانتشار التي تنفذها الفرقة الرابعة بالتنسيق مع الروس، في جغرافيا الجنوب السوري. وربما بانتظار تطورات حاسمة في ملفات غير سورية -في أوكرانيا، وفي فيينا- ستُلقي بظلالها على المشهد السوري، قريباً.