قبل أيام وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مخاطباً الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وبجانبه شاشة كبيرة تبث صوراً جوية ورسوماً توضيحية وخرائط. وراح يشرح بإسهاب ويدل على مواقع سرية لحزب الله لتصنيع الصواريخ أو لتخزين الأسلحة والذخائر، معظمها في أماكن سكنية مكتظة جنوب بيروت.
وبعد نحو الساعة من خطاب نتنياهو، ظهر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي معلناً تفاصيل إضافية عن هذه المواقع وطبيعة الأعمال التي تجري فيها.
وفي الحالتين، كان ثمة تذكير إسرائيلي بانفجار مرفأ بيروت، إما بنبرة التهديد المبطن الذي يوحي أن إسرائيل قد تضرب تلك المواقع، أو بنبرة تحريض السكان ضد حزب الله الذي يضعهم في خطر حين يحشو أسفل بناياتهم أو لصقها بالمواد القابلة للانفجار.
وأتت هذه الخطوة الإسرائيلية الإعلامية والاستخباراتية قبل ساعات من إعلان لبنان موافقته على "اتفاق الإطار" الذي يحدد مسار المفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية والبرّية. وهو إعلان بالغ الأهمية لجهة قبول لبنان مبدأ التفاوض مع إسرائيل. وبمعنى آخر، ولأن قراراً سياسياً بهذه الأهمية لا يمكن اتخاذه من دون موافقة حزب الله، فإن لبنان وحزب الله "رضخا" أخيراً لخيار المفاوضات التي ستديرها عملياً الولايات المتحدة الأميركية وتستضيفها الأمم المتحدة. أي أن حزب الله أقرّ للولايات المتحدة دور "الوسيط النزيه". وهو تحول سياسي هائل، ما كان ليحدث لولا الضيق الشديد والاختناق المالي والاقتصادي والسياسي والاستخباراتي الذي سببه حصار لبنان وعزله هو وحزب الله معاً.
واقعياً، أهدر لبنان عشر سنوات من المماطلة والمراوغة والرفض قبل أن يضطر أخيراً للذهاب إلى المفاوضات. وهي ليست فقط عشر سنوات، بل فرص هائلة اقتصادية وسياسية تبددت. عدا أن جزاء الرفض والمماطلة، كان مسلسلاً من الانهيارات والكوارث والإفلاس. إضافة إلى أن إسرائيل خلال هذه المدة كانت تستثمر في البحر حفراً وتنقيباً وإخراجاً للغاز والنفط، فيما لبنان لم يستطع بعد البدء في هكذا أعمال بمحاذاة الحدود البحرية المتنازع عليها.
والمهم هنا، أن مبدأ ترسيم الحدود عبر التفاوض، أي بتسوية ترتبها أميركا وترعاها الأمم المتحدة، يضمر اعترافاً بحدود الآخر، أي الاعتراف بحدود لـ"دولة إسرائيل". وهذا يستتبع "احتراماً" للحدود، لا فقط وقف الأعمال العدائية وحسب إنما أيضاً العودة -على الأقل- لاتفاقية الهدنة الموقعة عام 1949 بين لبنان وإسرائيل.
وهذا مسار يتطلب- بغض النظر عن المفاوضات- تطبيقاً للقرار 1701 (عام 2006) الذي هو بنهاية المطاف، انتهاء النزاع العسكري مع إسرائيل. وبكلام آخر، انتفاء "المقاومة" أو الحاجة إليها أو وجودها كميليشيا مسلحة خارج الدولة.
وإذا كان ثمة حرص على بقاء أسباب القوة بيد لبنان بوجه أي تهديد إسرائيلي مستقبلي، فإن فكرة "الاستراتيجية الدفاعية" (أي دمج "المقاومة" في الجيش، لا العكس) هي تسوية مشرفة أو صيغة تحفظ كرامة تلك "المقاومة"، بقدر ما تضمن المكانة السياسية للشيعة في النظام اللبناني، بعد تحول حزب الله إلى حزب سياسي طبيعي.
لكن هذا مجرد التصوّر المأمول، وليس تماماً ما سيحدث. فإسرائيل التي استبقت إعلان "اتفاق الإطار" بكشفها الاستخباراتي، أرادت التأكيد (هي والولايات المتحدة) أن حربها على حزب الله لن تتوقف، كما أن الضغوط السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والأمنية التي تمارسها واشنطن والعقوبات التي تفرضها ضد حزب الله وحلفائه ستستمر أكثر، وعلى نحو أشد في الفترة المقبلة. فالمكسب الذي تحقق بالرضوخ لمبدأ المفاوضات إنما أتى بفضل هذا الحصار والتضييق. وعندما تبدأ المفاوضات لا بد أن تصعّد أميركا وإسرائيل من حملتهما على الحزب وعلى لبنان، طمعاً بمزيد من التنازلات.
والكلام الإسرائيلي عن مصانع الصواريخ والدعاية الدبلوماسية المصاحبة له، أتى في لحظة الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه الحزب بنسفه المبادرة الفرنسية التي كانت بمنزلة آخر حبل نجاة له، ما جعل الفرنسيين يراجعون مواقفهم الرافضة لتصنيف الحزب منظمة إرهابية. فقد سأل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بصيغة الاحتجاج: هل أنتم ميليشيا أم منظمة تمارس الإرهاب أم حزب سياسي؟
الكلام الإسرائيلي عن مصانع الصواريخ والدعاية الدبلوماسية المصاحبة له، أتى في لحظة الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه الحزب بنسفه المبادرة الفرنسية
وهو لم يكن ينتظر الجواب، بل يهدد الحزب أن فرنسا على وشك السير بالوجهة الأميركية التي تطالب الاتحاد الأوروبي بوضع حزب الله في خانة الإرهاب، على نحو تتوسع معه مروحة العقوبات الدولية والغربية ضد الحزب، كياناً وأفراداً.
في هذا المناخ، ومع توقع فرض عقوبات أميركية جديدة، قريباً جداً، على الحزب وحلفائه، وفي عز الانهيار السياسي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان، فإن إسرائيل ستفاوض من موقع أقوى بكثير، وربما تحت وقع أعمال أمنية وتفجيرية تطول مواقع حساسة في لبنان، ربما تشبه "النشاط" الإسرائيلي في سوريا.
والنظام السوري ليس أفضل حالاً، كما أنه ليس بعيداً عن المسار اللبناني التفاوضي، فالوزير الشرس سيرغي لافروف أبلغ الأسد بوضوح، ضرورة الذهاب إلى تفاوض مع إسرائيل والتضييق على النفوذ الإيراني.
هكذا، ليس "اتفاق الإطار" لإطلاق مفاوضات بين لبنان وإسرائيل محصورة بترسيم الحدود البحرية والبرية، إنما تطول حتماً سلاح حزب الله وصواريخه ودوره السياسي، كما تؤثر على نحو حاسم في المشروع الإيراني على تخوم إسرائيل من القنيطرة إلى الناقورة.
ليس من المصلحة اللبنانية راهناً لا اتفاقية سلام ولا تطبيع. وليس من المصلحة اللبنانية أيضاً بقاء السلاح بوظيفته الإيرانية الأسدية، وبطابعه المذهبي وتأثيره الكارثي في المعادلة الداخلية، بعد العام 2000. المصلحة اللبنانية تأمين حدوده وموارده وحقوقه، وفق القرارات الدولية، وبالعودة إلى اتفاقية الهدنة.
فقد حان الوقت ليكون لبنان "وطناً" وليس "ساحة". وهذا طموح سوري، كما هو طموح عراقي.. من أجل أن نعمل لتكون فلسطين دولة وليست شعاراً كاذباً وقاتلاً.