إحاطة موجزة بشأن الدعوى ضد سوريا في محكمة العدل الدولية

2023.06.16 | 07:31 دمشق

 إحاطة موجزة بشأن الدعوى ضد سوريا في محكمة العدل الدولية
+A
حجم الخط
-A

لا يزال ثمة لبس وخلط لدى الكثير من العامة وحتى لدى بعض أصحاب الاختصاص من رجال القانون بين محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، فتذهب الظنون والتفسيرات للخطوة القضائية الأخيرة في الدعوى المقامة من كل من كندا وهولندا ضد النظام السوري (بوصفه ممثلا قانونيا للدولة السورية) بشأن انتهاكه لاتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعت عليها الدولة السورية، وافترض البعض أن ثمة محاكمات جنائية ستجري ضد المسؤولين السوريين عن جرائم التعذيب وأن أحكاما ستصدر بحقهم بهذا الشأن في فهم مغلوط لمضمون تلك الدعوى أولا ولطبيعة المحاكمات التي تجري أمام محكمة العدل الدولية ثانيا وما يميزها عن تلك التي تجري عادة – وربما تجري مستقبلا – أمام محكمة الجنايات الدولية.

لذلك أعتقد أنه من المهم أولا أن نفهم طبيعة محكمة العدل الدولية وطبيعة المحاكمات التي تجري فيها والآثار القانونية لأحكامها، وهو مدخل لا بد منه لفهم طبيعة الدعوى الكندية الهولندية المشتركة ضد النظام السوري في تلك المحكمة.

محكمة العدل الدولية على ما عرّفتها المواقع الرسمية للأمم المتحدة والأجهزة التابعة لها هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتتولى المحكمة الفصل - طبقا لأحكام القانون الدولي - في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، كما أنها تقدم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

محكمة العدل الدولية لا تنظر إلا في النزاعات بين الدول أو بمعنى آخر فإن الدول وحدها هي التي تكون أطرافا بالدعاوى التي يمكن لتلك المحكمة النظر بها

وتتكون المحكمة وفق ما نصّت عليه المادة الثالثة من النظام الأساسي لها من خمسة عشر عضوا، دون أن يكون اثنان منهم من رعايا دولة واحدة، أما الشخص الذي يمكن اعتباره لأغراض العضوية في المحكمة، مواطنًا لأكثر من دولة واحدة، فيتم الأخذ بوصفه مواطنًا للدولة التي يمارس فيها عادة الحقوق المدنية والسياسة.

ومن المهم التنويه أن محكمة العدل الدولية لا تنظر إلا في النزاعات بين الدول أو بمعنى آخر فإن الدول وحدها هي التي تكون أطرافا بالدعاوى التي يمكن لتلك المحكمة النظر بها وذلك وفقا لأحكام القانون الدولي والاتفاقيات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفا بها صراحة من قبل الدول المتنازعة وفق ما تشير إليه المادة 38 من النظام الأساسي.

في ضوء ذلك يتبدى الفرق الواسع بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فالأولى ينحصر اختصاصها في حل النزاعات والخصومات بين الدول وبالتالي هي تحاكم الحكومات، بينما تحاكم الثانية (محكمة الجنايات الدولية) الأفراد ممن نسبت إليهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب أو جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية، ولا ينعقد الاختصاص للنظر بتلك الاتهامات إلا إذا كانت الدولة المنتمي لها هؤلاء المتهمون من الدول الموقعة على ميثاق روما الأساسي المنشئ لتلك المحكمة أو بموجب قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي يحيل إليها ملف تلك الجرائم للفصل فيها.

في أول قضية من نوعها أمام أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة ومتعلقة بملف الصراع في سوريا تقدمت قبل أيام كل من كندا وهولندا بدعوى ضد سوريا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي على خلفية اتهامات للسلطات السورية بارتكاب جرائم التعذيب بحق مواطنيها، وبالتالي خرقها لالتزاماتها القانونية بعدما انضمت في آب 2004 لاتفاقية مناهضة التعذيب ومن ثم قيامها بإصدار القانون رقم 16 لعام 2022 لتجريم التعذيب بما يتواءم مع وجوب تكييف تشريعاتها الوطنية مع التزاماتها الحقوقية الدولية.

هي محاكمة للحكومة السورية بكليتها بهدف تحميلها المسؤولية القانونية عن ارتكاب أجهزتها الحكومية والأمنية لجرائم التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية والمهينة واللاإنسانية

كما طالبت الدولتان في عريضة دعواهما بإصدار أوامر للنظام بالإفراج عن السجناء المحتجزين تعسفيا والسماح للمراقبين الدوليين بدخول مراكز الاحتجاز، وأشارت الدعوى إلى أن الانتهاكات تشمل استخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة للمحتجزين، والظروف غير الإنسانية في أماكن الاحتجاز، والاختفاء القسري، واستخدام العنف الجنسي والعنف ضد الأطفال، وذلك ضمن ما تملكه المحكمة من حق إصدار أوامر بالتدابير المؤقتة التي تراها ضرورية وإرسال تلك الأوامر بتلك التدابير إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ ما يراه مناسبا من أساليب الضغط على الحكومة المعنية للاستجابة لتلك التدابير وفق نص المادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة.

إذا فهذه المحاكمة ليست محاكمة لأشخاص أو مسؤولين ارتكبوا أو على الأقل اتهموا بارتكاب جريمة التعذيب وإصدار أحكام جنائية بحقهم، بل هي محاكمة للحكومة السورية بكليتها بهدف تحميلها المسؤولية القانونية عن ارتكاب أجهزتها الحكومية والأمنية لجرائم التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية والمهينة واللا إنسانية.

قد يرى البعض أن هذه المحاكمة وما قد تفضي إليه من حكم لا يعتبر شافيا وكافيا للرد على الكم الهائل من الجرائم والانتهاكات المتنوعة التي ارتكبتها السلطات السورية بحق مواطنيها، وهو رأي يمكن تفهمه بالنظر لحالة الإحباط التي يعيشها السوريون بسبب خذلان المجتمع الدولي لهم طوال أكثر من عقد على ثورتهم والثمن الكبير الذي دفعوه من دمائهم وكرامتهم وحرية أبنائهم على مذبح الحرية، لكن على الوجه الآخر فإن تلك التحركات القضائية تكتسب أهميتها من كونها تعزز موقفا دوليا مهما يسعى لتكريس فكرة المساءلة والمحاسبة ورفض ومكافحة ثقافة الإفلات من العقاب أولا، كما تجعل لتلك السلطة المجرمة صفحة سابقة جرمية في سجلها العدلي الأممي يحول دون مساعي الكثيرين لإعادة تعويم هذا النظام المجرم وتجعل مساءلته عن جرائمه مدخلا لأي حل سياسي يسعى لسلام مستدام في سوريا، وبالتالي فهي خطوة مهمة وإيجابية تضاف لسجل النجاحات التي يسجلها حقوقيون سوريون إلى جانب مؤسسات حقوقية دولية ودول آلت على نفسها بذل ما يمكن لتعزيز إدانة دولة العصابة على المستوى الدولي وإدانة وملاحقة أعضائها من الضالعين بارتكاب تلك الفظاعات في سوريا.

ربما تكون ثورتنا بما انطلقت لأجله من قيم ومفاهيم الحرية والعدالة وسيادة القانون قد أجهضت – حتى الآن – لكننا كسوريين لن نهزم إلا عندما نتوقف بالفعل عن العمل لأجل ما أردنا تكريسه من قيم العدالة والحرية والانتقال إلى ضفة الديمقراطية وتكريس مفهوم دولة القانون.