في مراهقتنا وشبابنا المبكر، كنا نضع أمنيات للعام الجديد، نكتبها على مفكرات صغيرة، نتحدث فيها عما يمكن أن نقوم به في العام الجديد على المستوى الدراسي والعملي والمالي وسوى ذلك..
قسم منها نتحكم فيه فيتحقق، معتمدين على همتنا واجتهادانا خاصة ما يتعلق بالجانب الدراسي. وقسم هو خارج التحقق، لأنه هو خارج قدراتنا ويقع في باب دائرة الحظ، ودائرة الحظ أيام الاقتصاد الزراعي والصناعي ليس فيها مفاجآت سوى يانصيب معرض دمشق الدولي، إذ ينتظر سوريون كثيرون ممن لا تشغلهم فكرة "الحلال والحرام" كل مساء ثلاثاء ليراقبوا تلك الدواليب التي يديرها أطفال سيحددون من هو المليونير السوري القادم، وغالباً كان من محافظتي طرطوس واللاذقية، ليس نتيجة لفساد في إدارة الدواليب، وهذا ليس بمستبعد، بل ربما لأن عدد مشتري البطاقات من سكان هاتين المحافظتين أكثر من سواها.
كلما كان نموذج الحياة أبسط تكون القدرة على التحكم بالتفاصيل وتحديد مسارات الحياة أكبر، وكلما تعقدت الحياة وتشابكت خيوطها وخطوطها تفلت من بين يديك.
اليوم لو حاولنا، على المستوى الشخصي على الأقل، أن نتحكم بتفاصيلنا، خاصة بعد فقدان الجغرافية وتعقيدات الحياة المعاصرة في ظل الاقتصاد الرقمي وحالة التشتت، لوجدنا أن إمكانيات التحكم غدت أقرب إلى الأمنيات، وما عليك إلا أن تعيش الحياة "وأن تأخذها "كده زي ما هي ياللي بتسأل عن الحياة" وفقاً لكلمات مأمون الشناوي.
ما هي الأمنيات التي تنتظرنا في نهاية عام وبداية عام جديد؟ ذلك سؤال ليس من المبكر التفكير به، لأنه لم يعد سهلاً الإجابة عنه، وتقسيم الأمنيات كذلك ليس أمراً سهلاً، فقد تنوعت وتعددت بين الذاتي والعام والداخل والخارج، إذ تنوعت ذاتنا وتعددت وتعقدت وتشابكت ولم تعد هي تلك الذات البسيطة محدودة الأحلام والأمنيات.
تخيل لو قلت مثلاً، بعيداً عن المنجمين والمنجمات وفكرة "اجمع شملك": أريد أن يعم السلام العالم في العام الجديد، وأنت ابن منطقة تأكلها حروب الآخرين على أرضها، أو رغبة ساكنيها بالدفاع عما يعتقدون أنه حقهم من حرية وديمقراطية، وقد دفعت خلال السنوات الأخيرة ضحايا بمئات الآلاف، كم تبدو هذه الأمنية بعيدة ومؤلمة، بحيث يحاول عديدون عبر مؤتمر هنا أو مؤتمر هناك تبسيط الموضوع السوري الذي توجد في جغرافيته قوات لعدد كبير من الدول كأن الخيوط بيد السوريين وأننا وصلنا إلى "اليوم التالي" وما علينا إلا أن نقرر شكل الحكم! والموضوع لم يعد ينقصه إلا اجتماع عدد من السوريين ليقرروا اليوم التالي وما درى أولئك أن الدعوة كلها ليست أكثر من محاولة الاستثمار بهم؟
التبسيط ليس الحل الأفضل لما هو معقد ومتشابك، بل قد يكون تقسيم المكونات ومحاولة حلحلتها أولاً بأول. لا نعني بذلك الشأن العام فحسب، بل كذلك الشأن الشخصي.
نظر كثير من السوريين إلى أن أحد أبرز الحلول في السنوات الأخيرة، من باب النجاة بالنفس، هو اللجوء، وهذا نظرياً صحيح إلى حد ما، غير أن التفكير في عواقبه لم يشغل بال أحد، ولم تنل مرحلة "ما بعد اللجوء" الاهتمام، ولم يقدر كثيرون العقبات التي تليه من باب المقارنة بين السيء والأسوأ، وأن أي حل آخر غير اللجوء هو الأسوأ، دعنا نقبل بالسيء ما دام الخيار الآخر هو الأسوأ!
وهكذا تحولت العائلات السورية في أوروبا إلى كونها أحد أبرز الأمثلة على التفكك، وغدا الطلاق أبرز سماتها، والأسباب تعود في أحد جوانبها إلى عدم التفكير في "اليوم التالي" لما بعد اللجوء!
نعم نقول "عدم التفكير في اليوم التالي"، لكن هل يملك من يمر بظرف غير طبيعي نافلة التفكير باليوم التالي أو عدم التفكير، وهل لديه "باقة خيارات" ليختار منها؟
أين كنا وأين أصبحنا؟ كتاب جماعي سوري من تأليف كل السوريين في السنوات الأخيرة، تجده عبر اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، ويمكنك أن تقرأ فصوله كل لحظة، لتكتشف أننا في الطريق إلى "صرنا" مررنا بمراحل لا تخطر بالخيال، وتحولات مر بها معظم السوريين خارج الحسابات المألوفة، قسم منها قاموا به استجابة للظروف الجديدة، وقسم منها قيدوا إليه، وقسم منها رمتهم الأقدار الجديدة نحوه.
اللوم ليس أفضل الحلول التي تواجه بها ما تمر به، لأن لوم الذات، على ما فيه من سلبيات، عادة ما يكون فيما تتحكم به، أو هو داخل قدراتك وإمكانياتك، أما وقد فقدتَ/فقدتِ معظم أدوات التحكم وصرت جزءاً من التيار أو الزلزال أو البركان أو الإعصار فخفف عن نفسك، وقل أنا أريد وأنت تريد..!
ليست دعوة إلى الاستسلام، بل محاولة قراءة، كون معظم ما هو في محيطك اليوم خارج قدراتك وإمكانياتك، أما إن كان الأمر مرده الاجتهاد فحسب، فخذ بيد أمنياتك وطموحاتك نحو التحقق والصيرورة، لكن لا تحرق حاضرك ومستقبلك فيما سعيت إليه ولم يتحقق.
لا يمكنك اليوم وأنت تتأمل "أين أصبحنا"، وكذلك وأنت تنظر إلى المرآة أن تلكمها وتكسرها، لأنك إن لكمت المرآة بكل قوة يدك ستجرحها وسيسيل الدم وستحتاج إلى ضمادات كثيرة، لليد والقلب والأمنيات!
قد يكون الأفضل منه البحث عن مرآة جديدة تخفف من إظهار عيوب الوجه، ليس لأن عينيك مغمضتان عن مرور السنوات، بل لأن أدوات لعبة الحياة لم تعد بين يديك، وإعادتها إلى صندوقها القديم غدت أمنية خارج التحقق!
أين كنا وأين أصبحنا؟
قد تكون محاولة الإجابة فرصة ليس لتفقد الأمنيات الشخصية، بل لتفقد رفاق الدرب في مختلف مراحل العمر، أين صاروا وأين أخذتهم محطات السفر؟ الأحبة يمكننا أن نتفقدهم وأين أصبحوا؟
ربما يغدو السؤال باباً لحكمة ليس المهم من قالها: احن ظهرك للتيار كي يمر، ولا تقابله بالعناد، كي لا يكسرك، فقدرات الفرد ليست لا نهائية، بل محدودة جداً في عالمنا المعاصر.
رياح التغيير والأفكار الجديدة التي يمر بها البشر تحتاج إلى ثبات نفسي كبير وقوة شخصية كي لا تنجرف فيها وتضيع بوصلتك، وتتداخل الأولويات لديك بحيث لا تعود تميز بينها، ومن المهم أن تميز بين واجبات عليك وحقوق لك، ومن ليسوا في هذا الباب! وإن لم يكن لديك القدرة على تحديد الأولويات ستجرفك الريح وتلقي بك إلى درك لا تتخيله، فالدوامة والإعصار ليس لهما قوانين، وإن دخلت بهما سيقودانك إلى مدارك لا نهاية لها!
أين كنا وأين أصبحنا؟ ليس سؤالاً تأمليا فحسب بل محطة لتنظر إلى مرآتك الداخلية، وتأخذ لحظات من التأمل وقراءة مشهدك الذاتي، لأنك صرفت كثيرا من الوقت لقراءة ما هو خارجي، لعلها فرصة أخيرة متجددة كل يوم، أن تقرأ ما طمحت إليه، وما نويت القيام به، وما سعيت إليه وما آلت إليه أحوالك!!! هل هو ما خططت له؟ أم أنك نهب لأمنيات الآخرين! وخططهم التي يحققونها بك!
أين كنا وأين أصبحنا فرصة للتأمل وإعادة النظر والسير مع المركب أحياناً، فالمتنبي قال يوماً:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ
فرد عليه شاعر مجهول، سمح لكل منا أن يكون هو قائل بيت الشعر، إن كانت لدينا إرادة "اليوم التالي" والخيوط بين يديه:
تجري الرياح كما تجري سفينتنا نحن الرياح و نحن البحر و السفن ُ
فاقصد إلى قمم الأشياءِ تدركها تجري الرياح كما أرادت لها السفنُ
والمتنبي هو ذاته أحد رموز التحدي في الشعر العربي والصراع الوجودي وقد قال يوماً تعبيراً عن المشهد السوري واختصاراً له بل للمشهد العربي كله:
على قلق كأن الريح تحتي// أوجّهها جنوباً أو شمالاً
فهل أنت من ضحايا القلق أم تقلبات الريح؟ وهل أنت توجه خياراتك أم أنها هي التي توجهك؟
لا تستعجل بالإجابة ولا تبسّط ما هو معقد، وعد إلى السؤال الرئيس: أين كانت أمانينا وأين أصبحت؟