حظيت دمشق خلال العهد العثماني بأهمية دينية وثقافية على اعتبارها حاضرة أساسية في بلاد الشام، وإحدى العواصم المركزية للدولة الإسلامية، التي عمل العثمانيون على تعزيزها، وأطلقوا عليها لقب "شام شريف"، وجعلوها رابع المدن الإسلامية من حيث الأهمية بعد مكة والمدينة المنورة والقدس.
في هذا الكتاب "أهل القلم ودورهم في الحياة الثقافية في مدينة دمشق خلال الفترة 1708 ـ 1758" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت 2017)، يسبر مهند مبيضين أغوار الحياة العلمية والثقافية في دمشق، ابتداء من أماكن تلقي العلم، ووظائف العاملين في هذا المجال، ومناهج التدريس، والطلبة، وأصحاب الوظائف الدينية والقلمية في القضاء والإفتاء، ونقابة الأشراف، والعاملين في ديوان الولاية.
ويقف الكتاب على سجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الأوامر السلطانية، ومحفوظات الأديرة والكنائس، والمصنفات الأدبية والتاريخية، والشعراء، ودور الكتب، وزوايا الصوفية.
يبدأ الكتاب بتناول الوثائق الرسمية، خصوصا سجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الأوقاف والوثائق العثمانية ومحفوظات الأديرة والكنائس، كمادة غنية في معطياتها التاريخية يندر وجودها في المصادر الأخرى، إنها تدفع لاستقصاء تاريخ غير مكتشف.
روافد الثقافة والعلم في دمشق
شكلت المساجد والمدارس والزوايا المنتشرة في أحياء دمشق مكانا مهما للتدريس والخطابة والوعظ والتأديب، وكان الجامع الأموي أحد أهم هذه الأماكن الممتلئة بحلقات التدريس التي تتسم بطقوس، منها جلوس المدرسين على كرسي مرتفع.
ومن التراجم يمكن تلمس بعض المناهج المدرسة في مختلف العلوم: فأبو المواهب الحنبلي (ت 1714) لم يمنع كونه حنبلي المذهب بأن يدرس في محارب الشافعية.
ومن خلال اطلاع المؤلف على بعض السجلات، تبين له وجود منافسة بين العلماء على المناصب، فقد وجه قاضي الشام التدريس لصاحب الترجمة، وكتب له بذلك، ولم يظهر في الكتب المرسلة من طرف شيخ الإسلام لصاحب الترجمة شيء، وهنا يبدو أن نوعا من عدم التوافق بين رغبة القاضي وشيخ الإسلام.
وإلى جانب الجامع الأموي، كان هناك جامع التوبة، تنكز، يلبغا، الحنابلة، المصلى، الدقاق، منجك، الأقصاب، وهي المساجد الثمانية الكبرى منذ العصر المملوكي، وأضيف إليها خلال العهد العثماني جامع الدرويشية، السنانية، السليمانية.
وتوفر قضايا السكن المرتبطة بالمساجد والجوامع مادة عن تخطيط العمارة وشكلها، حيث تميزت بوجود عدد من الحجرات التي يسكنها الطلبة والعلماء الوافدين إلى دمشق، وكذلك الفقراء وأبناء السبيل.
وإلى ذلك، كان للمدارس دورا مهما، حيث بلغ عددها في الفترة التي يدرسها الكتاب ثمانية وأربعين مدرسة، وكانت أول مدرسة بنيت في القرن الثامن عشر هي المدرسة البيرمية التي بناها الوزير محمد باشا كردبيرم، ثم أولى ولاة آل العظم خلال حكمهم دمشق 1192 ـ 1779 اهتمامهم بالمدارس ودور العبادة، حيث بنى سليمان باشا العظم مدرسة في باطن دمشق محلة باب البريد عام 1737، ونقش إسماعيل باشا العظم أبيات من الشعر على باب مدرسته، فيما رمم أسعد باشا العظم مدرسة والده إسماعيل، وأضاف عليها عددا من المرافق.
وقد سار أعيان دمشق على التقليد نفسه، فقد بنى الشيخ مراد المرادي النقشبندي (ت 1719) مدرستي المرادية الجوانية والمرادية البرانية، فيما بنى فتحي الدفتردار المدرسة الفتحية.
كانت المدارس شكلا من أشكال التعبير عن المكانة الاجتماعية والعلمية التي بلغها الأعيان، حتى إنهم تفوقوا على الولاة في رعاية العلم وتشييد المدارس، فكتبت النقوش على مداخل المدارس بخطوط واضحة، بما يحمل من دلالات من حيث ألفاظ التفخيم والتبجيل التي تعكس طبيعة المكانة الاجتماعية لصاحب المدرسة.
تعكس العمارة بفنونها وأساليبها المختلفة روح العصر ومستوى التحضر الذي تعيشه أي مدينة، كما أن العمران هو علامة دالة على مستوى الرخاء وتوافر الأمن.
وقد ظهر أن القرن الثامن عشر شهد اهتماما واسعا من قبل الولاة والأعيان في التشبه بالسلاطين والأمراء في بنائهم للمدارس، ويقول محمد كرد علي في هذا الشأن "لولا مجموعة المدارس التي أنشئت في القرن الثامن عشر، لقلنا إن تاريخ المدارس ختم في دمشق بدخول العثمانيين.
ومن الروافد الثقافية والعلمية في دمشق، كانت زوايا الصوفية التي لم يقتصر دورها على الأذكار الدينية فقط، بل كانت مكانا للتعليم ومكانا لاجتماع أبناء الإقليم الواحد من الغرباء في المدينة، مثل زاوية المغاربة وزاوية الهنود.
خضعت الطرق الصوفية لتنظيم دقيق، حيث كان على رأسه شيخ مشايخ الطرق، وقد غطت الأوقاف مصاريف الزوايا الصوفية، ومن هذه الزواية:
ـ الزاوية النقشبندية في باب الجابية وسوق ساروجا، وكانت مشيختها بيد آل المرادي.
ـ الزاوية الخلوتية في الصالحية وحي القيمرية: انتشرت بين العامة والعلماء، وكانت مشيختها بيد آل كنان.
ـ التكية المولوية في ساحة الحجاز: عرفت بتكية الدراويش، وبهذا سمي أتباعها.
ـ الزاوية القادرية (الكيلانية / الصمادية): من مشايخ الكيلانية إسحق بن عبد القادر الكيلاني وأحمد البقاعي، أما آل الصمادي فتولوا مشيخة الفرع الثاني داخل محلة باب الصغير.
ـ الزاوية الجباوية الرفاعية في حي الميدان (محلة القبيبات): تذكر المصادر عددا من الزوايا المنتشرة بأحياء مختلفة من دمشق لهذه الطريقة، منها الزاوية الجباوية في حي الشاغور الجواني وفي الصالحية، ولكن أكثرها أهمية تلك الموجودة في الميدان بمحلة القبيبات.
ـ زاوية التغالبة أو زاوية العماد في الصالحية: وهي خاصة بأحد فروع الطريقة الرفاعية، وهو الفرع الشيباني، الذي كانت مشيخة سجادته بيد آل تغلب الذين استقروا في معظمية دمشق.
وإلى جانب الجوامع والمدارس والزوايا، انتشرت في دمشق خزائن الكتب، ففي الجامع الأموي، أظهر السجل الشرعي وجود الخزانة الأشرفية وكان يتولاها محمد بن أحمد الداغستاني، وخزانة الكتب الخاصة بالطلبة المالكية، إضافة إلى كتب أخرى متفرقة في مرافق الجامع.
ومن خزائن الكتب في دمشق، كانت خزانة المدرسة العمرية، خزانة المدرسة الإسماعيلية، خزانة المدرسة السليمانية، خزانة المدرسة الشميصاتية، خزانة جامع الياغوشية، خزانة المدرسة المرادية.
وإضافة إلى خزائن الكتب العامة، وجدت خزائن خاصة، مثل خزانة عبد الله بن أحمد البصراوي (ت 1756) وخزانة حامد بن علي العمادي (ت 1758)، وخزانة صادق الخراط (ت 1730)، وخزانة سليمان المحاسني (ت 1773)، وخزانة سليمان الحموي (ت 1705)، وخزانة عبد الغني النابلسي (ت 1730)، وخزانة إسماعيل العجلوني (ت 1769)، وخزانة إبراهيم بن يوسف المالكي (ت 1760).
المجالس الأدبية، كانت بدورها أحد الروافد الثقافية، ويروي المؤرخ الدمشقي ابن كنان الصالحي أن بيوت الولاة لم تكن تخلو من الصالونات الفكرية حيث يجتمع علماء الدين والأدباء والشعراء ورجال السياسة وطلبة العلم للتباحث في القضايا المعرفية والسياسية.
ويتابع أن هذه المجالس لم تقتصر على بيوت الولاة، بل كانت منتشرة في أحياء دمشق في الأسواق والحمامات والمقاهي، فضلا عن الأديرة والكنائس التي كانت مكانا للعلم.
وعلى المستوى الشعبي، تتحدث المصادر التاريخية عن ولع الدمشقيين بالتنزه والسهرات التي لا تخلو من الموسيقا والشعر والإنشاد، فضلا عن شخصية الحكواتي، فيما انتشرت المقاهي، مثل قهوة خبيني في بستان غربي المولوية، وقهوة الخزراتية المعروفة باسم القنوات، وقهوة الشاغور، وقهوة المناخلية.
أما الكنائس والأديرة فكانت أيضا أحد الروافد الثقافية، حيث شهدت تعليما قام به الرهبان والقساوسة والبطاركة، وكانت تحتوي على كتب ومخطوطات وكتب مقدسة وطقوسيات، شكلت بمجموعها إرثا ثقافيا مسيحيا، وكان تمويل الكنائس والأديرة يأتي من الأوقاف.
وتقدم حواشي المخطوطات معلومات حول النساخ المسيحيين في دمشق، وأسماء الزوار الذين وفدو إلى الأديرة من البطارك والرهبان.
نقابة الأشراف
يعين الأشراف المنحدرين من آل البيت (الحسني والحسيني) من إسطنبول بشكل مباشر، وقد تناوبت أسرتان دمشقيتان على منصب نقيب الأشراف، هما آل حمزة وآل العجلاني، لكن وصول آل الكيلاني من حماة إلى دمشق عام 1730 أضاف منافسا ثالثا.
ويقول المؤرخ البديري الحلاق أن دور النقيب لم يقتصر على الأشراف فقط، بل ليشمل الطرق الصوفية وأصحاب الحرف والصنائع.
وقد حظي الأشراف بمكانة كبيرة على المستوى الشعبي وعلى مستوى السلاطين العثمانيين، حيث تسجل الوثائق سفر بعضهم إلى إسطنبول وحصولهم على الهبات والعطايا.
وكان الأشراف يقومون بدور المحتسب في مراقبة السوق وضبط الأسعار ومحاسبة المخالفين وحل قضايا المتخاصمين، فضلا عن دورهم في حل المواجهات التي تقع بكثرة بين العسكر وعامة الناس.
وفي اليوميات المحلية، بدا واضحا أن الأشراف دخلوا في تحالفات محلية مع قوى "الجنداليرلية" ضد قوات الولاة "الجند القبقول" الذين تميزت علاقتهم بالأشراف بمواجهات وصدامات متكررة.
العلماء والأدباء
اهتم الأدباء والعلماء بآداب اللغة العربية وفنونها، فألفوا فيها على أشكال مختلفة من التلخيص والتعليق والنظم والشرح.
وظهرت أسماء كثيرة في المرحلة التي يدرسها الكتاب: الأديب والشاعر أحمد بن حسين الكيواني وسعيد بن محمد السمان ومحمد بن حسين الصيداوي، ومحمد بن أحمد الكنجي، وغيرهم.
وتعبر كل من "الحلة الضافية في علمي العروض والقافية" و "أرجوزة القليبي في العروض نظما وشرحا" و "أرجوزة العروض"، عن نتاج أدباء دمشق المهتمين في فن العروض.
وفي اللغة والمعاجم كان ثمة جهد بذله حسين بن أحمد الداديخي الحلبي الأصل، الدمشقي الإقامة، في تتبع الألفاظ التي شاعت بين الأدباء آنذاك، وكذلك الجهد الذي بذله أحمد بن علي المنيني في تتبع الألفاظ الغربية.
ويعتبر إيراد المرادي في سلكه "للمقامات الزلالية البشارية" علامة على نصيب أدب المقامات في دمشق، وتداوله في المراسلات بين الأدباء.
ومن الفنون المستحدثة عند شعراء دمشق خلال فترة الدراسة استخدامهم لفن التأريخ الشعري، حيث يأتي الشاعر ببيت في القصيدة يذكر فيه كلمة يكون مجموع أحرفها، ذلك التاريخ الذي قصده.
وقد أُرخ الشعراء في شعرهم لأعمال الولاة، كقول حامد العمادي (ت 1758) في تأريخ بناء حمام إسماعيل باشا العظم عام 1735:
أنشأ سليمان باشا الصدر الرفيع المكان
للناس بيت نعيم يزهو بحسن المباني
نراع بناه بهيا وزير هذا الزماني
وإلى جانب الأدباء والشعراء، كان للمؤرخين حضورا مهما في دمشق وفي تأريخ يومياتها في كافة المجالات، ومن الأمثلة على ذلك: "تحريك السلسلة فيما يتعلق بالزلزلة" لإسماعيل بن محمد العجلوني، أرخ في لبعض الزلازل التي ضربت دمشق، "حلول التعب والآلام بوصول أبي الذهب إلى دمشق" وفي تأريخ أعمال الأمير محمد بك أبو الذهب (ت 1775)، "تاريخ الشام" للخوري ميخائيل بريك الدمشقي الذي أرخ فيه للأحداث اليومية في المدينة، "حدائق الياسمين في ذكر قوانين الخلفاء والسلاطين" لابن كنان.
الرحيل إلى دمشق
تشير السجلات والوثائق أن دمشق كانت ملتقى للعلماء من كافة أنحاء العالم العربي، فقد جاء من القدس بحسب ما ذكر ابن كنان عدد من العلماء والأدباء، غادروا القدس بسبب الفتن والأحوال المضطربة، ونزلوا في مدرسة الكلاسة بجوار الجامع الأموي بدمشق، كما جاء علماء من منطقة الجزيرة والعراق، وخصوصا من المناطق الكردية، فضلا عن علماء جاؤوا من الجزيرة العربية ومصر وبلاد المغرب.
وتظهر السجلات وجود عدد من العلماء من أصل رومي أقاموا في دمشق وتولوا وظائف مختلفة، ومن هؤلاء عبد الكريم الداغستاني الذي حظي بشرف التدريس في الجامع الأموي.