في الحارة التي أسكنها في أمستردام توجد مجموعة واتس أب، يتشارك فيها الجيران التفاصيل حول أحوال الحارة، وتوجد لوحات على مدخل الحارة تنبه العابرين إلى وجود تلك المجموعة كنوع من فكرة "نحن هنا"، والهدف من ذلك هدف أمني أول. الشرطة كذلك وضعت كاميرا كبيرة في مدخل الحارة، ومعظم السكان يضعون كاميرات على أبواب بيوتهم أو على الشبابيك، هو نوعٌ من أنواع البحث اللانهائي للنفس البشرية عن الأمان في زمن الخوف السائل الذي أسهب في الحديث عنه زيغمونت باومان في إطار الحديث عن مراقبة الناس العاديين في حياتهم اليومية، تلك الطريقة التي انتشرت بعد أحداث 11 سبتمبر وساعد على وجودها الإنترنت في إطار رصد المواضع البرانية القابلة للرصد. والسعي للتحرر من الخوف والوصول إلى العيش بأمان. أخبارٌ متنوعة ترصد هموم سكان الحارة، ثمة قطة ضائعة، ونسي صاحبها أن يضع جهاز المتابعة على رقبتها، يضع صوراً لها، على المجموعة فيتطوع عدد منهم من أجل البحث عنها، ما هي إلا ساعة أو نحو ذلك حتى يجدوها. جارة أخرى تشتكي من أن عمال سكة "الترام" المجاورة بدؤوا عملهم قبل السابعة بدقائق، وتقول إنها ستتصل بالبلدية لتشتكي عليهم لأن كم الضجيج الذي أثاروه يتجاوز النسبة المسموح بها عالمياً وهي 65 دي سيبيل (65 decibel ) وكان على الشركة المنفذة أن تبحث عن تعويض ملائم للسكان، وتشير إلى أن الشركة المسؤولة عن المنزل الاجتماعي لأختها في مدينة أخرى قامت بحجز فندق لسكان الحي حتى ينتهوا من الإصلاحات.
يستوقفني جاري متسائلاً عن المرجوحة المعلقة على الشجرة وهل أعتقدُ أنها آمنة للأطفال إنْ وقع أحد منهم على الأرض، ويفكر بأن نمدَّ تحتها سجادة بلاستيكية إسفنجية تمتص الصدمات خشية وقوع طفل منها. تشارك زوجته بالحديث وتسألني عن رأيي بمشكلة النتروجين في هولندا ومظاهرات الفلاحين الهولنديين المستمرة منذ أكثر من سنتين، وتحولت أخيراً إلى مظاهرات تعكس ألوان العلم الهولندي وتضع الراية الحمراء على السيارات، أؤكد لها تضامني معهم خاصة أولئك الواقفين على الجسور عصراً إذ أؤشر لهم بتحريك إضاءة السيارة غير مرة فيردون التحية بالتلويح بأيديهم. مشكلة النتروجين في هولندا تتمثل في حرص الحكومة على تخفيف انبعاثاته مشاركة منها في تخفيف مشكلة الاحتباس الحراري في العالم، وذلك من خلال التخفيف من قطعان الحيوانات خلال فترة محددة، أو أن يقوم الفلاحون بشراء تواليتات للأبقار تقوم بمعالجة الانبعاثات، قبل أن تتحول النترات الناجمة عن روثها وبولها إلى النتروجين، وهو غاز أسوأ بعشرات المرات من ثاني أكسيد الكربون.
التعامل مع ملف اللاجئين يشبه تعامل العالم مع ملف القضية السورية من حيث الإهمال، ولماذا لا تقوم الحكومة بتخصيص الأسِرّة المخصّصة للأوكرانيين للاجئين الآخرين
الحكومة قدمت حزمة حلول منها التخفيف من عدد الأبقار والدجاج والأغنام والخنازير التي تبلغ عشرات الملايين، أو مراعاة الشروط الصحية لإنتاج الأسمدة الطبيعية، أما من هو غير قادر على القيام بذلك فتشجعه الحكومة على الانتقال إلى مهن أخرى، تعلم الحكومة صعوبة ذلك الحل لأن تربية الحيوانات ذات طابع وجداني ونفسي وإيديولوجي، ويغدو من الصعب جداً على من اعتاد تربيتها حرمانه من ذلك.
أتبادلُ مع أولادي آلية تعامل الحكومة الهولندية مع موجة اللاجئين، ونحو نصفهم من السوريين، ولماذا لا تقوم بإجراءات عاجلة، وكيف أن التعامل مع ملف اللاجئين يشبه تعامل العالم مع ملف القضة السورية من حيث الإهمال، ولماذا لا تقوم الحكومة بتخصيص الأسِرّة المخصّصة للأوكرانيين للاجئين الآخرين. الصراع بين الأحزاب الهولندية على أشده، كثيرون يرون أن ذلك لا يليق ببلد مثل هولندا، في حين يقول ابني: إن زيارة الملك لمخيم اللجوء المركزي الأسبوع الماضي جاء تعبيراً عن لوم للحكومة بعد وفاة طفل هناك وأن الحكومة تتباطأ في الحل لإيصال رسالة سلبية للاجئين الجدد.
زميلي في العمل يحدثني عن موجة الغلاء التي زادت على خمسين بالمئة، لا بدّ من الإشارة إلى أن جهود الحكومة في مساعدة ذوي الدخل المحدود غير كافية، ونسهبُ معاً في الحديث عن أزمة الطاقة، ولماذا لا تقوم الحكومة بفتح صنابير الغاز في شمال هولندا، لدينا فائض كبير، وحين يصل الحديث إلى "بوتين" أقولها بثقة سوري عانى من ويلات روسيا ودورها في كسر إرادة الثورة: توقعوا كل شيء من هذا العسكري، المخابراتي المستبد لا يقبل عقله المفاوضات، لا يقبل إلا أن يكون فائزاً أو منتصراً.
ابن أختي القادم حديثاً لا يعرف لماذا لا تقوم الشرطة بضرب سائقي القطار المطالبين بزيادة الحد الأدنى للأجور كي يفكوا إضرابهم عن بعض خطوط القطار، ويرى أن هؤلاء السائقين إن اعتادوا أن تلبى طلباتهم بالإضراب فلن يكون لذلك نهاية، أحدثه عن اقتصاد الاكتفاء وأن الأشخاص لن يطلبوا المزيد في حال كان لديهم ما يكفيهم، يحدثني عن اقتصاد مراكمة المال نتيجة الشعور بعدم الأمان وأن المال أحد أدوات الحماية والشعور بالاكتفاء في ظل تقاعد الدولة عن أدوارها..
أتابع أخبار أهلي، الذين يهربون من بيتهم أسبوعياً كلما وقع قصف من قوات التحالف، ذلك أن بيت أهلي يقع بالقرب من مقار إحدى الميليشيات، وكذلك هم قريبون من أحد المعابر على نهر الفرات، ما ينشدونه منذ سنوات هو الأمان، أن يبيتوا آمنين فحسب.
يخبرني أحد المعارف ممن أهله في سوريا؛ أن طموحهم شراء بقرة من أجل أن يساعد حليبها في إطعام الأطفال، لا أقارن بين مَن يحاول التخلص من عدد الأبقار الكثير ويفكر بتواليتات للأبقار تخفّف انبعاثات غاز النتروجين ومَن يبحث عن حليب لأطفاله، أسأل هذا الرجل عما حل بأبقارهم وقد كانوا أصحاب ملك وبقر، يقول لي: حين هرب أهله كما كل من كانوا على الضفة اليمنى من نهر الفرات حين دخل النظام وميليشيات إيران، عفّش المعفّشون كل أبقارهم وأغنامهم كذلك أسلاك الكهرباء، نحاول أن نهرب من المقارنة بين سوريا وهولندا لأن المقارنة عادة ما تكون بين متشابهين أو متقاربين، لكن نمط الحياة في سوريا ونمطها في هولندا لا يقبل المقارنة، نتيجة اختلاف الظروف في كل شيء..
ابن أختي، الذي وصل حديثاً إلى هولندا، كان أول طلب له هو أن يزور مشفى حيوانات، وأن يأخذ لقطة سيلفي بجانب سيارة إسعاف للحيوانات، ويستذكر كم أزهقت أرواح أمام عينيه في سوريا، لأنه لم تكن هناك سيارة إسعاف أو طبيب يعالج البشر. يرسل لقطة السيلفي بجانب سيارة الإسعاف ويسأل إخوته عن السيارة، يحزر أحدهم أنها سيارة إسعاف، وبعد قليل ينقطع اتصال الإنترنت قبل أن يخبرهم أنها سيارة إسعاف للحيوانات، يطلب منهم أن يصعدوا إلى السطح كي يُلتقط الاتصال ولا يصدقون أن الإنترنت مفتوح دائماً وأن الجيل الحالي من الهولنديين لا يعرف انقطاع الكهرباء.
أتابع أخبار مرض الكوليرا في سوريا، والخوف من جائحة جديدة، وأن آخر جائحة مر عليها أكثر من ثلاثين عاماً، وأتساءل: هل تحتاج سوريا إلى جوائح جديدة؟
كيف يمكن أن نخفف من التعدي على الحريات وانعدام الخدمات وغياب القانون في هذا الجزء من سوريا الذي يرفع علم ثورة 2011 وأتساءل: ماذا بقي منها؟ ومن أين نستمد الأمل لبقاء قيمها؟
أقرأ أخبار المنطقة التي تديرها الحكومة المؤقتة والفصائل التابعة لها بإشراف تركي، وأقرأ جوانب من تقرير اللجنة الأممية الخاصة بسوريا حول حقوق الإنسان، أقرأ خبراً عن اغتصاب طفل، أتابع خبراً عن تهريب إلى تركيا يحدث بإشراف قادة في الجيش الوطني، أشعر بالألم وخيبة الأمل، إذ تُقدم هذه المنطقة نموذجاً فاشلاً في الإدارة والعسكرة والاستبداد وقوة السلاح وفرض إيديولوجيا جامعية محددة وعدم متابعة شجون الناس، الذين يعيشون حياة حافلة بمنع الحريات وعدم وجود ضوابط أو قانون، إضافة إلى انتشار أنواع مختلفة من الفساد…
أتابع كذلك أحوال السوريات الأخرى: سوريا التي يديرها النظام، وسوريا التي تديرها قسد، وسوريا حكومة الإنقاذ، المشهد ليس أفضل بكثير، إن لم يكن أسوأ في الجوانب ذاتها أو في جوانب أخرى، أتساءل: كيف يمكن أن نخفف من التعدي على الحريات وانعدام الخدمات وغياب القانون في هذا الجزء من سوريا الذي يرفع علم ثورة 2011 وأتساءل: ماذا بقي منها؟ ومن أين نستمد الأمل لبقاء قيمها؟ لماذا لا تكون نموذجاً يحتذى في سوريا المنتظرة؟ بسبب قلة الكفاءات أم الفساد الكبير أم بسبب الراعي المشرف؟ ما الحل كي ننقذها ونقدم للسوريين شيئاً من الوعود المنتظرة القادمة من وعود الحرية.
كيف يمكن كسر الهوة بين حياة العالم الأول وحياة العالم الذي تعيشه سوريا، ويعيشه أهلنا هناك، هل من أمل؟ قبل أن أفقده، أتذكر تجربة رواندا وسنغافورة، وأبدأ بقراءة كتب أو مقالات عن تجربة ذلكما البلدين كي أبقى حياً في منطقة الأمل، أتذكر كذلك كيف كانت حالة أوروبا وهولندا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية…