طرحت الصين أنموذجاً ناجحاً في تقدمها الهائل في مجالات الاقتصاد، طُرح مترافقاً مع نظامها السياسي، ما يشكل ضمانة للتقدم السريع، فالحزب الشيوعي الصيني استطاع القبض على السلطة أقل من قرن كامل، حكم خلالها شعباً تعداده نحو مليار ونصف. تغلب بقيادته على أزمات، واجتاز عقبات، وخاض حروبا أهلية، كذلك حرباً مدمرة مع اليابان، وعانى من مجاعات وحقق ثورة ثقافية، كما واجه بعد موت زعيمها ماوتسي تونغ ما يشبه الانقلاب قاده ما دعي بعصابة الأربعة، هذا ما يقال. ويستدعي التساؤل: ترى هذا النجاح كم كانت كلفته؟
يفسره محللون بأنه كان قرناً كاملاً من انصياع الشعب الصيني، وذلك باستجابته الطوعية لتعليمات الحزب الشيوعي، وانصراف الصينيين للعمل والعائلة، دونما انشغال بالسياسة، ولا الالتفات إلى ما يزعم عن انتهاك حرية الرأي وحقوق الإنسان، مع اعتقاد صارم أن الحزب هو المسؤول عن السياسة الداخلية، والمعبر عن السياسة الخارجية، وإليه يعود الفضل بعد نضال طويل بتوفير حياة تمتع فيها الشعب بقدر معقول من الرفاهية.
يُرجع مراقبون غربيون أيضاً، طاعة الشعب الصيني إلى الحزب الحديدي الذي دأب بطبيعته على ممارسة التدجين الإيديولوجي بكل صرامة، وبأساليب بوليسية قاسية، كالقمع والاعتقال والنفي والعمل القسري، ما أنتج شعباً ينشد الأمان، كل فرد يبغي النجاة بنفسه، غير مبال بغيره، ولا بما يدور سواء في الصين أو خارجها، يتلقف تعليمات الحزب ويرددها كالببغاء، وما يعرفه عن العالم والحياة لا يتعدى ما يلقنه إياه الحزب عن طريق المدرسة والمنظمات الشعبية.
صورة الطاعة المطلقة، يوضحها المثال الشهير لما عرف بـ"الوثبة الكبرى إلى الأمام"، أعلن عنها الزعيم الصيني ماو، وكانت ترمي إلى زيادة القدرات الاقتصادية للصين عدة مرات حسب شعار: "ثلاثة أعوام من الكدح، عشرة آلاف عام من السعادة". كانت خطة لتسريع التقدم الاقتصادي بالتحول إلى الصناعة من خلال العمل القسري. ما أدى إلى هجر الحقول والزراعة والتفرغ لإنتاج الفولاذ. كانت كارثة، ساعد عليها الفساد بتزييف كمية الإنتاج الزراعي دون أن تترك شيئًا يُمكِّن المزارعين من العيش، ولم يفلتوا من الاتهام بإخفاء الحبوب في منازلهم، وشُنت عليهم حملات اعتقالات دونما جدوى إلا بالتضحية بهم. وصلت الفاقة والندرة إلى المدن التي بدأت تعاني هي الأخرى من نقص الغذاء مع ازدياد الأمراض الناجمة عن سوء التغذية.
بينما في الريف بدأت الكارثة مع تناقص احتياطيات الغذاء، والفلاحون يموتون بأعداد كبيرة على جوانب الطرق وفي المنازل، ولقد شاهد أفراد الأسرة الجوعى جثث آبائهم تتعفن أمامهم دون أن يملكوا القدرة والقوة على دفنهم، كان كل ما بإمكانهم فعله هو الجلوس وانتظار الموت، إما من الجوع أو من الجرذان التي ستلتهمهم أحياءً. أودت أزمة الغذاء بحياة ما يقدر بنحو ثلاثين مليوناً على أقل تقدير.
يُرجع مراقبون غربيون أيضاً، طاعة الشعب الصيني إلى الحزب الحديدي الذي دأب بطبيعته على ممارسة التدجين الإيديولوجي بكل صرامة، وبأساليب بوليسية قاسية، كالقمع والاعتقال والنفي والعمل القسري
بالعودة إلى خطة الوثبة الكبرى، عندما أعلن عنها، لم يسمح بأي مناقشة، كان الحزب يقمع أي تساؤل عنها، كما كان دور الصحافة تضليل الرأي العام حيال معدلات الاحتياط الغذائي والمبالغة في قدرة البلاد على تغطية أي عجز في مخزون الغذاء. فيما بعد، رغم أهوال المجاعة لم يستطع الشعب، لوم الحكومة التي تذرعت بالجفاف، فكان الطقس هو المسؤول، وإلى اليوم لا يُعرف عدد الموتى الحقيقي للمجاعة، ومازالت الكتب المدرسية في الصين تبرئ ماو من أي ذنب.
المستغرب لمن عاش أو يتذكر الستينيات، بلغ تضليل الإعلام، أنه شمل شبيبة أوروبا والعالم العربي، أصبح هناك أتباع لـ ماو من المثقفين، إضافة إلى فلاسفة يشيدون به، وأحزاب ماوية، تنادي بالثورة الثقافية تعم العالم، ومضى زمن طويل، كي يدركوا أن هذه الثورة لم تكن إلا ثقافة الموت كلفت عدة ملايين من الضحايا، بينما كانت صراعا بين مراكز القوى في الصين، تخلص فيها ماو من خصومه. ويبدو حتى الآن، أنه لا يمكن تصور خروج الصين عن الطريق الذي رسمه ماو، ما زال يقودها من القبر، وهو ما يناسب بلاداً لديها زعيم خالد، تعتمد عليه في قيادتها من قبره، ما يحقق لها نمواً إلى الأبد.
اليوم والصين تتجه نحو المستقبل الرقمي، وقطعت شوطاً معتبرا فيه، يمكن القول إن الرقمنة جيرت لفائدة السلطة، ما زاد في إحكام السيطرة على البشر. فمثلا في مركز مراقبة في شنغهاي يتم رصد كل مواطن من خلال مئات ملايين الكاميرات المبثوثة في الشوارع للتعرف إلى سلوكه، عندما يلبس كمامة أو يخلعها، أو مواعيد رمي القمامة، أو قطع الشارع من المكان المخصص، أو عدم ارتداء عامل لخوذة الأمان... لا يمكن الهروب من الكاميرا، إذ ترصد كل من يخالف، لا خصوصية، الخصوصية منتهكة.
الاستغراب الأشد أن هناك شبانا صينيين يعتقدون أنهم يجارون تقدم العالم ويسبقونه، ويعبرون عن شعورهم بالأمان، عندما يمرون بمئات الكاميرات. لا ينقصهم شيء مادام أنهم يتسلون بتطبيقات التيك توك، يعملون أفلاماً لطيفة، ويحصلون على مئات الآلاف من نقرات الإعجاب.
هذا هو النظام في عالم جديد، تطمح إليه حكومات من العالم الثالث، تتعثر في شموليتها الرثة، تقدم لها الصين أنموذجاً حداثياً للدولة الشمولية، يُسَهِّل عليها ضبط مواطنين ليسوا إلا أرقام تحت المراقبة.