أمْنَنَة ملف اللجوء السوري إلى أوروبا

2022.08.27 | 06:12 دمشق

أمْنَنَة ملف اللجوء السوري إلى أوروبا
+A
حجم الخط
-A

كان من اللافت أن إعلاناً من الشرطة الهولندية قد شاهده زائرو الفيسبوك من السوريين باللغة العربية، يطلب منهم عدم التردد بالاتصال بالشرطة لإبلاغها عن مجرمين أو شبيحة أو ميليشياويين لجؤوا إلى هولندا عبر رقم هاتف خاص. ليس جديداً مثل هذا الالتفات إلى ماضي اللاجئين، لكن هذا الإعلان ينبئ بإنشاء قسم خاص بهذا الملف، باشر عمله مؤخراً، مهمته الرئيسية البحث في الماضي الأمني للاجئين السوريين إلى هولندا.

وبات هذا العامل أحد العوامل الرئيسية في سرعة منح الإقامة في هولندا أو بطء ذلك أو عدم منحها، كذلك التاريخ الأمني للشخص، ولا يقتصر هذا التاريخ على ما قام به في بلده الأم، بل يدخل فيه تهريب البشر وتجارة المخدرات والانتساب إلى مافيات أو تنظيمات غير مشروعة مثل داعش، وكذلك الأمر بخصوص الانتساب إلى فصائل المعارضة المسلحة "الجيش الحر". لم تكن الدولة الهولندية مغمضة عيونها عن هذا الجانب من قبل، لكن في الفترة الأخيرة زاد الاهتمام به إلى درجة أن شأنه صار أهم من الجانب الإنساني أو الاجتماعي للجوء وقد يتضح ذلك من الميزانية المخصصة له أو عدد العاملين به ومستواهم.

أمننةُ ملفٍ ما على المستوى الإجرائي، يعني إيقاف خطوات معالجته إلى حين ورود الرأي الأمني فيه، وهو موجود في كل الدول والمؤسسات. الفرق الكبير بين الدراسات الأمنية التي كانت تجرى في سوريا والدراسات الأمنية التي تعد في هولندا، الطابع الاحترافي والأسباب، والعوامل المؤثرة فيه. في هولندا مثلاً يقوم جهاز احترافي مستقل بدور وظيفي لتنفيذ ما هو مطلوب منه، له أسس موضوعية وأدلة للمحاكمة العقلانية، يديره موظفون محترفون يعملون على الأدلة والوثائق بخاصة مما هو موجود في الداتا الأمنية الهولندية المتقاطعة مع الأوروبية والأميركية خاصة، إضافة إلى الإفادة من الداتا المفتوحة عبر الإنترنت.

في سوريا؛ الجهاز الأمني الذي يقوم بالدراسات يتقاطع مع السلطة، والعائلة الحاكمة، إضافة إلى المصالح التي يمكن أن يجنيها من ملف ما، دون أن يفوتنا فساد العاملين فيه، وابتعاد دوافعهم مطلقاً عن أي مجال احترافي أو أخلاقي أو مؤسساتي، إضافة إلى تقاطع معظمهم مع تاريخ إجرامي، الدراسة الأمنية في سوريا تعني هل تهدد أنت أو أحد من أهلك أو معارفك السلطة الحاكمة.

لوحظ أن المقبوض عليهم كانوا من مختلف الجهات من جبهة النصرة ومن ميليشيات النظام أو عسكره

ثمة جانب أمني سوري اجتماعي آخر مهم جداً هو: "خبّروني عنك، أو سألتُ عنك" ويستعمل في الإطار الوظيفي أو في إطار الخطبة والزواج، إذ بناء عليه قد توقف مشاريع خطبة كثيرة. وقد نقله معظم السوريين مجتمعاً وأفراداً معهم في رحلة لجوئهم، خاصة المجتمع السوري في إسطنبول مثلاً، كما حدث مع صديقة قبل أسابيع وردت أخبار مغلوطة عنها أو ادعاءات كارهين لها فتوقف مشروع خطبتها ولم ينفع التطابق بين برجيْ الحبيبين. وكذلك في هذا السياق تقدم مؤخراً صديق لي إلى وظيفة مهمة في إسطنبول، لكنه رُفِض في اللحظات الأخيرة قبل القبول لأن مدير المؤسسة وردته أخبار (أو دراسة أمنية من فاعلي الخير) بأن هذا المتقدم سيكون خطراً عليه وفقاً لما أخبره به أصدقاء مخلصون، وقد فات، صديقي كذلك، المدير المذكور أن الاصطياد في الماء العكر كذلك خصلة كثير من السوريين.

لم يكن الإعلان عن استقبال الشرطة للبلاغات التي تخص ماضي اللاجئين هو المظهر الوحيد لأمْننة ملف اللاجئين في هولندا مثلاً، بل سبقته تسريبات صحفية وتحقيقات حول القبض على قادة ميليشيات أو شبيحة في هولندا. ولوحظ أن المقبوض عليهم كانوا من مختلف الجهات من جبهة النصرة ومن ميليشيات النظام أو عسكره، ومن مظاهر الأمننة لملف اللاجئين السوريين نذكر محاكمة أنور رسلان وسواه في ألمانيا، وإسلام علوش في فرنسا. من حيث المبدأ يبدو أن هذا المدخل الأمني جانب مهم للقبض على مرتكبي الجرائم في دول أخرى، الذين يستغلون الجانب الإنساني في أوروبا، وهم يقدمون سرديات أخرى عن ماضيهم غير الجميل، لكن من المهم ألا يطغى على الجوانب الأخرى في ملف اللجوء ويتم تغييب الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي في ملف اللاجئين.

يمكنكَ في حياة اللجوء في البلد الجديد أن تبدأ حياتك بالسردية التي تريد، والاسم الذي تريد، وبالتاريخ الذي تتخيله، بشرطين رئيسيين: الأول: ألا يكون هناك أدلة لدى الآخرين مضادة لما قلته أو ادعيته، والثاني: أن يكون ما تدعيه معضداً بالوثائق والخبرات؛ كي لا يُكتشف أمرك ويتمّ تقويض تاريخك السردي الجديد.

 يذكر أحد العاملين السوريين مع جهات هولندية، مهمتها التدقيق في روايات اللاجئين وملفاتهم أن المعجم اللغوي الذي استعمله أحد المتقدمين بطلب لجوء، في إفادته معجمٌ مستمد من المصطلحات التي يستعملها جيش النظام، مما كان مفتاحاً للتعرف إلى أن هذا الشخص هو شخص آخر غير ما يدعيه، حيث أخفى معلوماته الحقيقية وتمّ اكتشاف أمره وأن ثبوتيّاته مزورة، فرُفِضَ طلبه ولم يمنح إقامة، وها هو الآن في طريق الترحيل.

وجهٌ آخر لزيادة منسوب التعامل الأمني الأوروبي المرتبك مع اللاجئين؛ يتمثل في تواتر الإعادة القسرية لمن يقبض عليه في أي جزء من اليونان، بعد أن كان مقتصراً على المناطق الحدودية. إضافة إلى منع أي تعامل مدني معهم، بهدف إعادتهم إلى الحدود التركية، قبل أن تصبح لديهم سجلات في اليونان أو أوراق ثبوتية أو طلب من نوع ما، إضافة إلى التعامل اللإنساني الذي يقوم به العسكر اليوناني أو الكوماندوس الأوروبي وينقله إلينا أبناؤنا يومياً ويوثقونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

تشير معلومات يهمس بها عاملون غربيون في الحقل السياسي إلى أن الجانب الأمني في التعامل مع ملف اللاجئين أحد أبرز الجوانب التي تدفع الحكومات الغربية للتواصل مع النظام السوري، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال دول وسيطة، ويقصد هاهنا بالتعاون تبادل المعلومات حول أشخاص أو قادمين أو مغادرين أو مجموعات.

ومما يدخل في باب الطرافة المرة، التي تلاحق تفاصيل عدد من السوريين، أن شركات الاتصال في سوريا تقدم إعلانات في أوروبا عبر وسطاء حول إمكانية شحن رصيد الأشخاص في سوريا كهدية، وهذا يقتضي استعمال "كودا" إبان تحويل المبلغ بجانب المبلغ المحوَّل. وفي هذا السياق قام شخصٌ سوريّ قبل أسابيع بتحويل رصيد بثلاثة يورو لحبيبته في دمشق، إلا أنه بعد أيام ورده بريد إلكتروني من الأمن الهولندي الخاص بمعالجة الإرهاب لسؤاله عن الكودا المرافقة للتحويل، خشية أن تكون رقم عملية، أو إيذاناً بتنفيذ جريمة ما، لأنه من غير المعقول وفقاً "للرأي الأمني" أن يحول لاجئ سوري في هولندا إلى خط موبايل حبيبته عبر حساب وسيط ألماني ثلاثة يوروات إلى سوريا!

أخذ الجانب الأمني حول اللاجئين أو القادمين من البلدان المسلمة خاصة حيزاً كبيراً بعد أحداث 11 سبتمبر، وفي المجمل شهدت الدراسات الأمنية اهتماماً كبيراً بعد الحرب الباردة في ظل الانتقال من مجتمع الحرب الباردة والأحلاف والحدود العالية، إلى مجتمع العولمة والثورة التقنية، أو كما يسميه عدد من الدارسين مجتمع المخاطر.

جانب أمني آخر أخذ يشغل بال السلطات الهولندية في ملف اللاجئين في فترة ما بعد منحهم الإقامة الدائمة أو الجنسية هو العمل في المهن الممنوعة، التي تدخل في باب الجرائم الدولية من مثل: الإتجار بالبشر- المخدرات وتجارتها غير الشرعية- الانتماء إلى المافيات- ترخيص مؤسسات لا تستوفي الشروط اللازمة- غسيل الأموال... إذ تشير إحصائيات الجهات المعنية إلى أن عدداً من السوريين دخل في تلك المجالات وشارك بالكثير من الأنشطة غير الشرعية.

تشتغل تلك المافيات على فكرة رغبة القادمين الجدد بالثراء السريع لتحقيق الأمنيات، فيدغدغ مندوبوها عواطف سرعة تحقيق الأهداف في الحياة والتشتت في الهوية فيصطادون ضحاياهم بسهولة

 ومن المعلوم أنه، تقليدياً، ووفقاً لدراسات وتجارب سابقة، تستغل الجهات العاملة في تلك المجالات (المافيات) حاجات اللاجئين المعيشية الطارئة أو النفسية لدى المجموعات البشرية الراغبة بالإنجاز السريع، أو المتحمسة لكي تثبت لمجتمعاتها نجاحها في مهجرها. أو هي ضحية صراع الهوية والوجود، الذي يعيشه الشباب خاصة. فتسهل كل تلك الصراعات سهولة أن يسهموا في أنشطتها لأنهم صيد سهل. يُضاف إلى ذلك وجود سمات لافتة أخرى لدى كثير من السوريين من مثل: الرغبة في المغامرة، واعتياد العمل في التجارة، وشيوع مفاهيم الصفقة والربح والخسارة، وسعادة كثيرين بمخالفة القانون؛ نتيجة تجربتهم السابقة البائسة في سوريا معه. وتشتغل تلك المافيات على فكرة رغبة القادمين الجدد بالثراء السريع لتحقيق الأمنيات، فيدغدغ مندوبوها عواطف سرعة تحقيق الأهداف في الحياة والتشتت في الهوية فيصطادون ضحاياهم بسهولة.

يحاول كثير من السوريين اليوم، عبر دخولهم عالم الممنوعات، أن يورثوا العالم جزءاً من خسارتهم الكبيرة غير المحدودة، بعد أن رفض العالم نفسه أن يورثهم جزءاً مما وصل إليه من عدالة وحرية، فلم يقدم لهم ما يكفي من دعم لتحقيق حلمهم، يشاركهم ويتشارك معهم أزمات مجتمع المخاطر والخوف الذي لا ينتهي!