تذكر كتب الأدب أن رجلا يُكنى بأبي حية النميري كان جبانا بخيلا أهوج.. وكان له سيف يسميه لُعاب المنية لا فرق بينه وبين الخشبة، فدخل بيته ذات ليلة كلبٌ، فسمع حسه فظنه لصا، فأشرف عليه حاملا سيفه المزعوم وأخذ يهدده ويتوعده بصوت عال ليُسمع الناس.. فبينما هو كذلك بين جيرانه إذ خرج الكلب فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا.
أفرزت الثورة السورية سوريين معارضين خرجوا ضد النظام مناصرين لثورتهم ولمبادئها، فكانوا قسمين اثنين:
أما الأول فهم أولئك الذين كانوا في الداخل السوري ثم اضطروا لأسباب عديدة معروفة للنزوح والخروج واللجوء فما حملوا معهم شيئا من بيوتهم ومحالهم وأراضيهم وأرزاقهم بما فيها الأوراق الرسمية، فكثيرون ليس معهم شهاداتهم العلمية أو البطاقة الشخصية أو جواز السفر.
وأما الثاني فهم أولئك الذين كانوا خارج سوريا، سواء للعمل أو للدراسة أو لغيرها من الأسباب ، طبعا هؤلاء بحكم وجودهم خارج الدولة السورية فبحوزتهم بطبيعة الحال جواز السفر وتلك الأوراق الرسمية والشهادات وغيرها.
تكمن المشكلة في أن السوري المعارض الذي كان في الداخل السوري عندما خرج لاجئا أو نازحا أو فارا من بلده ومن الحرب مضطرا وجد نفسه مطارداً ملاحقا مطلوبا للنظام، وهذا يشمل المعتقلين والمنشقين عن النظام على اختلاف أماكنهم ومناصبهم، وبسبب ما رآه وعايشه وجد أن استخراج الأوراق الرسمية وجوازات السفر ستكلفه كثيرا، فضلا عن أن هذا يقدم دعما للنظام الذي يقتل ويعتقل ويقصف، فالبرميل الذي كان يلقيه النظام على المدنيين كلفته دولار واحد أو دولاران، ولكم أن تتصوروا عدد البراميل التي اشترك المعارضون في إسقاطها، فهذا المعارض عانى وما زال يعاني من صعوبة الحصول على الأوراق الرسمية والشهادات وجواز السفر، وغير ذلك من المعاملات والإقامات الرسمية في بلدان اللجوء وهو معرض للترحيل لأتفه الأسباب إما إلى النظام وسجونه ومعتقلاته كما الحال في لبنان والعراق، أو إلى الشمال السوري حيث الفوضى الأمنية والاغتيالات وأمراء الحرب (كما في تركيا) فهو بلا إقامة، وليس له شيء وهو الذي اعتُقل وسُجن وعُذب وشُرد وهُجّر، بسبب خروجه على النظام من داخل الدولة السورية.
وهذا المعارض كُتب عليه أن يكون حظه قليلا ونصيبه منقوصا في العمل والسفر حتى في الأجور والرواتب، مقارنة بالسوري الآخر المعارض وهو خارج سوريا، فذلك بطبيعة الحال موجود خارج بلده، ومعه حقيبته الرسمية بما فيها من أوراق وشهادات وجواز سفر وغيرها، فالسوري المعارض الذي كان خارج سوريا لا يرى بأسا في تجديد جواز سفره مهما كلفه الأمر، ولا يجد غضاضةً في القيام بالمعاملات المدنية ودفع آلاف الدولارات (وطبعا من حقه أن يكون وضعه قانونيا في تلك البلاد)، لأنه خارج سوريا واعتاد على الأمر، وألِف الزيارة والسفر بين البلدان سياحة وعملا وقضاء للعطلات والرحلات أينما أراد، وهو يحمل قضية ما عانى منها في الداخل السوري، وما ذاق من ويلاتها وعذاباتها كما ذاق الآخر، وما رأى سوريا عيانا لأكثر من 12 عاما إلا على الشاشات، ونتيجة للوضع القانوني ووجود الأوراق القانونية والشهادات و جواز السفر ظهر فرق كبير في المعاملة وفرص العمل والرواتب والأجور بين من يحملون جوازات رسمية وإقامات عمل رسمية (في دول اللجوء أو دول الخليج أو غيرها من الدول التي فيها جالية كبيرة من السوريين) والذين ليس لديهم جوازات وليس لديهم إقامات عمل.
حدثني أخ يعمل في مؤسسة تدعم السوريين اللاجئين والمهجرين وترعى شؤونهم أن راتب أحدهم يزيد على راتب زميله بـ 50 في المئة، لأن الأول معه إقامة عمل وجواز سفر وجاء مسافرا بالطائرة، والآخر معه بطاقة الحماية المؤقتة (بطاقة اللجوء) وجاء راجلاً لاجئاً وهو بحاجة لما يسد الرمق. طبعا هما بنفس الدرجة الوظيفية والعمل والشهادة العلمية، أليس من الصواب والعدل والمساواة أن يكونا متساويين في أصل الراتب في ظل تضخم اقتصادي كبير إقليمي وعالمي!؟
سألني صديق يعمل في الخليج منذ 15 عاما، مستشيرا خلال سنوات الثورة واحتدام الصراع عن دفعه للبدل النقدي للمكلفين الذين يعملون في الخليج، فنصحته بعدم دفع ذلك المبلغ لأنه يعدّ دعماً للنظام ويساعد على القتل والتشريد والدمار، فظل يجدد جواز سفره كل سنتين ويدفع مقابل ذلك كثيرا من المال، والآن سألني عن دفعه للبدل وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه، فنصحته آسفاً متأسفاً بتعجيل الدفع لأن البدل أصبحت قيمته مضاعفة، ولأن تكاليف تجديد جواز السفر على مدار 12 عاماً فاقت قيمة البدل بضعفين أو ثلاثة أضعاف ولأن المعارضين طوال سنوات الثورة كانوا يجددون جوازاتهم ويسافرون من بلد إلى بلد ويعيشون حياتهم ولحظاتهم التي لا تنسى (كما يُقال) فكان معظمهم داعما للنظام (من حيث يدري ومن حيث لا يدري) باستخراج الأوراق الرسمية والجوازات ودفع الرشى هنا وهناك حتى يتمتعوا بامتيازات مناصبهم ومكانتهم العلمية والعملية ورواتبهم العالية، ولسان حالهم يقول: الحمد لله الذي كفانا حربا ورزقنا كسبا