تعد المؤسسات مدماكا أساسيا في عملية بناء الدولة أو إعادة بنائها، وتلعب دوراً حيوياً في تشكيل الهوية الوطنية والثقافة السياسية، والمشاركة المدنية، والحوكمة الرشيدة، والتنمية. لا يمكن الحديث عن دولة مستقرة من دون مؤسسات فاعلة ورشيدة تحظى بقدر معتبر من الشرعية تمكنها من كسب دعـم المواطنين وتأييدهم لسياساتها. فأي دور للمؤسسات في الوعي السياسي؟
مبادئ أساسية
صاموئيل هنتنغتون في كتابه "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" يقول: المؤسسات في منطلقاتها الأساسية تأخذ من الاستقلالية منطلقاً لها في القرارات والحرية في إبداء الآراء التي تخدم كيان الدولة والتي تتأسس على المصلحة الوطنية بالضرورة. وهو الأمر نفسه الذي يُكسِب هذه المؤسسات قدرة تنظيمية تزداد تكيفاً مع زيادة التحديات، إضافة إلى البنية الوظيفية في الأدوار الرئيسية المنوطة بهذه التشكيلات، التي من خلالها يتم التأسيس لقاعدة صلبة وركيزة قوية قادرة على النهوض بالدولة ومواجهة الرهانات داخل المسرح العالمي.
أي إن الاستقلالية والحرية هما مبدآن أساسيان للمؤسسات الفاعلة والرشيدة، والقدرة التنظيمية والبنية الوظيفية لتلك المؤسسات هما عاملان مهمان يساعدان المؤسسات على التأقلم مع التحديات. حيث إن الدولة القوية والمستقرة هي نتيجة للمؤسسات التي تسهم في بناء الهوية والثقافة والمشاركة السياسية.
الثقافة السياسية تلعب دوراً بارزاً داخل أي هيكل تنظيمي، حيث تؤثر بشكل كبير على التوجيه والتنظيم الداخلي لمكونات الدولة الوطنية. لا يمكن الحديث عن الثقافة السياسية من دون الحديث عن بعض الإسهامات في السياسات المقارنة، وأبرزها ما قدمه غابريل ألموند، الذي ربط الثقافة السياسية بالمواقف السياسية.
الموقف السياسي ووجوهه الثلاثة
تحدث ألموند عن أن المواقف السياسية تتمحور في ثلاثة أوجه أساسية؛ فهي بذلك إدراكية بحسب التراكمات السابقة، أي المعرفة والفهم والتفسير للواقع السياسي بناء على التجارب والمعلومات السابقة. وعاطفية من حيث التعاطف مع الفاعل السياسي، أي المشاعر والانفعالات والتحيزات التي تربط الفرد أو الجماعة بالفاعل السياسي أو القضية السياسية. وتقويمية قائمة على إعطاء الوقائع والحقائق سواء بالسلب أو الإيجاب. أي الحكم والتقييم والموقف الذي يتخذه الفرد أو الجماعة تجاه الواقع السياسي بالموافقة أو الرفض أو الحياد.
تبعاً لذلك، وكما جاء في كتاب "علم السياسة" لـ "جان ماري دانكان"، يمكن التمييز بين ثلاثة نماذج رئيسية للثقافة السياسية: أولها الثقافة الهامشية، وهي عدم الاهتمام كلياً أو جزئياً بالنظام السياسي، وهو سلبي وجوباً؛ وثانيها ثقافة الخضوع، وهي تلك التي تتأسس على معرفة الأفراد لسلوكيات وردود فعل السلطة، وهو سلبي أساساً؛ وثالث هذه النماذج ثقافة المشاركة، وهي تلك التي تتأسس على فاعلية الجمهور في كل مراحل العملية السياسية.
باختصار، تعد المشاركة السياسية داخل المجال الذي يوجد فيه الفرد هي الأساس الذي تنمو فيه مبادئ التشاركية والتوافقية. خاصة في بيئة صار "لزاماً معها جس النبض تجاه ما يتم التلاعب به داخل أروقة النظام السياسي". معنى هذا: لا يمكن الحديث عن فاعلية للثقافة السياسية في ظل نظام سياسي مغلق، لأنه لا يمكن اعتباره أرضاً خصبة تنمو فيه ثقافة الأفراد وتزدهر.
المجتمع المدني كصمام أمان
إذا افترضنا أن المواطن له دور في المعادلة السياسية، فإنه يتوجب علينا الاعتراف بالمكانة الرئيسية لجميع تشكيلات المجتمع المدني مهما اختلفت أهميتها ومواقعها الاجتماعية، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على الهندسة البنائية للدولة، التي تدعو إلى ضرورة نشر الوعي السياسي بين المواطنين. من هذا المنظور، تصبح مؤسسة المجتمع المدني لاعباً أساسياً في معادلة البناء الوطني، وهو شأن مشترك لا يخص الحاكم أو الدولة وحدهما. وهو ما يؤكد ثانية ضرورة المشاركة الشعبية في إدارة شؤون البلاد.
تلعب تشكيلات المجتمع المدني دوراً فعالاً في استعادة التوازن داخل محيط القرار السياسي، بحيث يسهم المجتمع المدني النشط في منع أي هيمنة لأي عنصر على باقي العناصر، بغض النظر عن صفته وأهميته في معادلة الدولة. لهذا السبب، يجب التعاطي بمفاهيم التنوع ومبادئ التوافق واحترام الاختلاف والنقد بمنأى عن الأنانية العدوانية. وإذا كان هذا هو الحال، فهو يرسخ مبادئ الحكم الرشيد ويمنح المواطن حضوراً فاعلاً في شؤون الدولة، وبالتالي لا يستطيع المجتمع المدني أن يؤدي أدواره إلا بوجود حكومة/ دولة قوية تتميز بمبادئ الشرعية.
كل ألوان الطيف السياسي يجب أن تشارك في صنع القرار السياسي بما في ذلك المعارضة السياسية. إلا أن المعارضة السياسية في سوريا منذ تشكل الدولة السورية في أربعينيات القرن العشرين كانت ضمن مسارين اثنين، الأول أنها سياسة بلا مشروع، والثاني إقصاء/ تهميش لا مفر منه، إما من السلطة أو بسبب ارتباطاتها الدولية. وكلا المسارين ينطبق على المعارضة السياسية اليوم؛ فلا مشروع معينا ولا مبادئ محورية ولا حتى محاولات واقعية لتثبيت مكانتها في المعادلة السياسية.
في خضم هذا النقاش حول دور المؤسسات والثقافة السياسية في بناء الدولة، يظهر الواقع السوري كتحدٍ خاص. فالاضطرابات متعددة الجوانب أثرت بشكل كبير على تكوين المؤسسات وتشكيل الثقافة السياسية. في سياق النضال السياسي في سوريا، عدم وجود مشروع سياسي محدد ونقص التوجه الواضح يشكلان عقبة كبيرة أمام تحقيق التوازن في البناء الوطني.
لذلك، يبدو أن الطريق نحو الاستقرار والتطوير في سوريا يتطلب تحديثًا شاملاً للمؤسسات وتعزيز الثقافة السياسية. يجب على المعارضة أن تعمل على توضيح رؤيتها وتحديد مبادئها المحورية، بينما ينبغي على الهياكل الاجتماعية أن تلعب دورًا أكبر في تعزيز الوعي السياسي والمشاركة المدنية.
في هذا السياق، يظل التناغم بين المؤسسات والمواطنين أمرًا حاسمًا. ينبغي أن تكون المؤسسات مستقلة وحرة في اتخاذ قراراتها، مع تحقيق التوازن بين الاستقلالية والالتزام بالمصلحة الوطنية. وعلى الجمهور أن يلعب دورًا فعّالًا في توجيه المسار السياسي والمساهمة في تحديد مستقبل الدولة. الخلاصة من كل هذا، إن العمل المشترك بين المؤسسات والمجتمع المدني يمكن أن يكون مفتاحًا للنهوض بسوريا وتجاوز التحديات الراهنة.