مارست المعارضة السورية حالات استعراضية كثيرة منذ انطلاقة الثورة السورية، كان من بعضها رفع السقف في مطالبها، كما حدث ابتداءً من عام 2012، حين راحت تطالب بالتدخل الخارجي، وكان المقصود بالطبع تدخل حلف "الناتو"، على غرار ما حصل في ليبيا، انطلاقاً من قراءة خاطئة في المقارنة بين الوضع الجيوستراتيجي الليبي والسوري، وتمسك معظم من اعتبروا آنذاك من صقور المعارضة بمطلب التدخل الخارجي، باعتباره ورقة ضغط على نظام الأسد، ولتأكيد مكانتهم كأشخاص فاعلين في المعارضة، ومدافعين شرسين عن الثورة.
وانطلاقاً من المحاكاة الساذجة لسيناريو التدخل الخارجي في ليبيا تأسس "المجلس الوطني السوري"، بزخم كبير من الإخوان المسلمين، وواجهات علمانية، ينتمي بعضها للحقل الأكاديمي، ولا تمتلك تاريخاً وازناً في الممارسة السياسية، وخلال عام 2012، بدا واضحاً أن "المجلس الوطني" لا يمتلك برنامجاً سياسياً واضحاً، أو خططاً بديلة، على اعتبار أن النظام السوري سوف يسقط بين ليلة وضحاها، وهو ما عبّر عنه أكثر من معارض من جماعة "المجلس الوطني"، بل إن بعض التسريبات كانت تتحدث عن تشكيلات لحكومة بديلة، وطرحت أسماء كثيرة لمناصب وزارية وغيرها، في أبشع صورة كاريكاتورية عن الخفة السياسية.
"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" لم يكن في رؤيته وسلوكه السياسي أفضل حالاً من سلفه "المجلس الوطني"، فقد بقي التعويل الأساسي على الخارج، من دون الأخذ بعين الاعتبار نتائج ذلك التعويل على الدعم الإقليمي من مشكلات بنيوية، مضافاً إليها أن الدول الإقليمية، بوصفها صاحبة مصالح وطنية عليا، ولديها مفاهيمها الخاصّة للصراع الإقليمي، يمكن أن تغيّر مواقفها لتغيّر موازين القوى، وبالتالي فإنه من الأجدى لدى القيادات السياسية، في صراع وطني وجودي، مثل الصراع السوري، أن يكون لديها خططاً بديلة للتعامل مع المتغيّرات الإقليمية والدولية.
قال القدوة للمعارضة السورية إنه يخشى من أن يكون مصير القضية السورية مشابهاً للقضية الفلسطينية، وأنه يجب عدم التعويل على قرارات الأمم المتحدة، أو على الصداقات مع الغرب.
في أحد الاجتماعات المهمة الذي عقدت في القاهرة، بين قيادات المعارضة السورية والديبلوماسي الفلسطيني ناصر القدوة، بعد بيان جنيف 1 في 30 يونيو/حزيران 2012، وكان حينها مساعداً لكوفي أنان مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية لسوريا، وقد قال القدوة للمعارضة السورية إنه يخشى من أن يكون مصير القضية السورية مشابهاً للقضية الفلسطينية، وأنه يجب عدم التعويل على قرارات الأمم المتحدة، أو على الصداقات مع الغرب، وبالطبع فإن قيادات المعارضة السورية لم تأخذ كلام القدوة على محمل الجد، وقد اعتبرها البعض أنها تصبّ في مصلحة النظام السوري.
عوّلت المعارضة السياسية على استنزاف النظام عسكرياً من قبل المعارضات المسلحة، بما فيها الفصائل الإسلامية، وحتى الفصائل المتطرفة، لقناعتها بأن استنزاف النظام سيقوده إلى التفاوض حول مصيره، ومصير أفراده، حتى إن بعض قيادات المعارضة تحدث عما وصف بأنه عروض لمغادرة قيادات النظام، وأفراد عائلاتهم، وذكرت بعض الأرقام بهذا الصدد، منها مغادرة 500 من قيادات النظام وعائلاتهم إلى روسيا أو غيرها.
وفي تلك الرؤية التي اعتمدها "المجلس الوطني"، ومن ثم "الائتلاف الوطني"، أغلق الباب أمام الحوار مع باقي أطياف المعارضة التي كانت تمتلك رؤى مغايرة للصراع الوطني، ورافضة للتدخل الخارجي، بل إنه تمّ شنّ حملات تخوين عديدة ضد أي صوت عقلاني، أو أي طرح سياسي مغاير، ما جعل المعارضة غير قادرة على الحوار فيما بينها، وأفشل إمكانية إنتاج تصورات واقعية، كان يمكن لها أن تسهم في أخذ الصراع إلى مكان آخر غير هذا الذي وصلنا إليه.
ومنذ سقوط حلب، والاستدارة التركية نحو روسيا، وتشكيل ما يسمى الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا) لمسار أستانة، بدا واضحاً أن الميل العام هو لحسم الوضع العسكري، وتفويض روسيا إقليمياً ودولياً بهذا الدور، من أجل إنهاء المعارضة العسكرية، وإخراجها من المدن، وتوالت منذ ذلك الحين العمليات العسكرية العنيفة ضد المعارضات المسلحة، وصولاً إلى إخراجها من محيط دمسق، وخصوصاً من مدن وبلدات الغوطة الشرقية، بينما كانت المعارضة السياسية تستمر في عملية المزاودة، مع معرفتها الكاملة بأن سقوط البلدات والمدن أصبحت مسألة وقت، وأن الترتيبات النهائية تجري بشكل متسارع، وقد دفع المدنيون ثمن تلك المزاودة، وغياب الفاعلية للمعارضة السياسية.
إن مسار العمل السياسي المعارض خلال السنوات السبع الماضية، يؤكد، بما لا يقبل الشك، على غياب الرؤية الاستراتيجية للصراع الوطني، ووضع المصالح الضيقة قبل المصلحة الوطنية العليا، وعدم وجود تحليل جدّي لبنية النظام وتحالفاته، أو فهم دقيق للتنوع الاجتماعي في سوريا، وإمكانية لعب النظام على التناقضات الداخلية، واستثمارها لمصلحة بقائه.
من بين ما تحتاجه المعارضة السياسية اليوم هو إعادة تقييم جدية ونقدية لمسار عملها، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها، ونقد خطابها السياسي، والتحالفات التي قامت بها، فمن دون تلك المراجعة الجدية فإن المعارضة مرشحة لمزيد من التدهور والتحلل، خصوصاً مع الظروف الكارثية للوضع السوري، حيث أن جميع المعارضات السياسية موجودة خارجة الوطن السوري، وفاقدة بالتالي لأي تواصل جدي مع المعطيات الداخلية.
كما أن واحدة من كبريات المشكلات التي تواجه المعارضة السياسية هي إعادة تعريف نفسها، فقد نشأت معظم التكتلات السياسية من مجموعات سياسية متواضعة الوزن فكرياً وجماهيرياً، واعتمدت على بعض الرموز التاريخية، والتي أثبتت أنها لم تكن مؤهلة لقيادة صراع وطني بحجم الصراع السوري، وهو ما يجعل من الضرورة بمكان التفكير بالأشكال السياسية الجديدة، آخذة بالحسبان مجمل الوضع السوري السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مضافاً إليه جملة التعقيدات الإقليمية والدولية التي وقفت ضد مصالح التحول الديمقراطي في سوريا.