لماذا تتعالى إسرائيل على القانون الدولي؟

2024.05.13 | 05:02 دمشق

إسرائيل
+A
حجم الخط
-A

اعتادت دولة الاحتلال رفْضَ المثول، مبدئيًّا، أمام القانون الدولي، كما يظهر إزاء قرارات الأمم المتحدة، حين تدين احتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والاستيطان غير الشرعي في تلك المناطق، وكما ترفض مجرَّد تناول محكمة العدل الدولية ممارساتها في الحرب العدوانية على قطاع غزة، وكذلك تفعل إزاء احتمالية إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال بحقِّ مسؤولين فيها.

وهنا مسألتان رئيسيتان، الأولى، مدى قدرتها على النجاة من أنْ تطولها إجراءات عملية، تنفِّذ فعليًّا مقررات الهيئات الدولية، والثانية المنطلقات التي تحملها على رفْض مجرّد تعرُّضها للمحاكمة، أو المساءلة القانونية.

أما قدرتها على النجاة من طائلة القانون الدولي فأهمُّ ضامن لذلك هو الحماية الأميركية، من خلال حقِّ النقض، أو الفيتو، أو بتأثير الولايات المتحدة الذي يتراوح بين التهديد، بأدوات ماليَّة، مثلا، أو بنفوذها لدى القضاة، ولدى تلك المؤسسات، مسبقًا.

وفي هذا السياق، تحرص إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على الامتناع عن إصدار أيّ معطيات واضحة ومؤكَّدة، يمكن للمحكمة الدولية الاعتماد عليها، في تدعيم الحجج الذاهبة إلى إدانة إسرائيل وقادتها.

كما أظهر تقرير وزارة الخارجية الأميركية الذي صدر مؤخًّرا، وتناول استخدام دولة الاحتلال الأسلحة الأميركية في قتل مدنيِّين في قطاع غزة، إذ برغم إقراره أن ثمَّة أسبابًا منطقية ومعقولة لاتِّهام جيش الاحتلال في انتهاك القانون الدولي الإنساني في استخدام تلك الأسلحة، إلا أنه خلصت إلى أن الإدارة الأميركية لم تجد ما يكفي للحكم بذلك، بشكل نهائي ومؤكَّد.

وأما فيما يتعلق بالموقف الرافض مبدئيًّا الخضوع للقضاء الدولي، فيعود إلى جملة من الأسباب، لعل من أهمِّها تصوُّر إسرائيل عن نفسها، أن شرعية وجودها (وهذا صار أكثر طُفوًّا على السطح، منذ رجحان كفّة اليمين واليمين المتطرِّف) هي شرعية ذاتية؛ دينية توراتية، فهذه التي يسمُّونها أراضيَ محتلة، ليست كذلك، ولا هي متنازَعٌ عليها، إنها بكلِّ بساطة، وبكلِّ تأكيد "أرض إسرائيل"، كما في إطلاقهم الرسمي على مناطق الضفة الغربية، باستثناء القدس، اسم "يهودا والسامرة".

والثانية أنها متأثِّرة بأزمة وجودية، تخشى أن يكون انقيادُها إلى تلك المحاكم الدولية منتقِصًا من شرعية وجودها، فهي تقول بأنه لا حاجة إلى تلك الجهات الخارجية للنظر في ممارساتها؛ لأن لديها نظامًا قضائيًّا متمتعًا بالكفاءة، متجاهلة كونها طرفًا في النزاع، وأنَّ النزاهة تتطلَّب وجودَ جهةٍ قضائيٍّة منزَّهة، بأكبر القرائن والضمانات، عن أيِّ تأثُّرات أو تحيُّزات، ولا سيما حين يكون النظر في قضايا بالغة الخطورة والفظاعة، كما جرى، ويجري في قطاع غزة، ومتناسية أو متجاهلة كذلك ما اعتراها قبل "عملية طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول، من العام الفائت، من تصدّعٍ لا يمكن التشكيك فيه، أصاب نظامَها القضائي، ورفَع مستوى المخاوف، وعلى ألسُن مختصِّين إسرائيليين كبار في القضاء وفي السياسة؛ أن الانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، لصالح اعتبارات سياسية يمينية من شأنه التشكيك، دوليًّا، في صلاحية هذا النظام القضائي المخضَع لاعتبارات احتلالية استيطانية، واضحة.

وبتتبُّع تصريحات مسؤولين إسرائيليين، ومواقفهم، تظهر لنا عقدة متأصِّلة لها تأثير واسع، تلكم هي البارانويا، وهي ذات وجهين، وجه يرى في اليهود الإسرائيليين، هدفًا دائمًا للاضطهاد، ووجه يرى أنهم أعظم وأعلى من غيرهم، في درجة الإنسانية، وبهذا المؤثر لا يرى قادةُ الاحتلال الجرائمَ والإبادة الجماعية التي يمارسونها في غزة، الآن، ومنذ بداية الحرب، إنما يرون فقط أنهم الضحية، فهم وحدَهم الضحية، ويحقُّ لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، بكل الوسائل، وعلى أوسع نطاق، لذلك علَّق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على  موافقة محكمة العدل الدولية النظر في القضية التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا، بقوله إن "مجرَّد الادِّعاء بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحقِّ الفلسطينيين أمر شنيع. واستعداد المحكمة لمناقشة هذا الأمر يشكِّل وصمة عار لن تُمحى لأجيال عديدة".

وكذلك اعتبر أن دراسة المحكمة الجنائية، في لاهاي، إصدار أوامر اعتقال ضد قادة دولة إسرائيل "من شأنها أن تضع وصمة عار لا تُمحَى على فكرة العدالة والقانون الدولي". وهم تحت هذا التأثير يُكنّون للآخَر تصوُّرات عدائية، لأنهم يرونه كارهًا لهم، كما قال نتنياهو إن والده أخبره بأن الكراهية لهم هي فيروس يتجدَّد عبر الزمن.

وفي حمأة هذه النفسية المريضة لم يحتمل قادة في إسرائيل محاولات بايدن كبْحَ جماحهم، ولو بضغوطٍ ناعمة، فوجَّهوا له التُّهَم، بمحاباة حركة حماس، وغير ذلك، في نكران صارخ للجميل، وبمبالغة طائشة في قوة دولتهم، وجيشهم، وأنهم ليسوا بحاجة إلى أميركا، هذا بعد كلِّ الدعم الأميركي، العسكري والمالي والسياسي الدبلوماسي، الذي أكّد افتقاد دولة الاحتلال القدرة على الحفاظ على بقائها، دون رعاية أميركية حثيثة.

وهذا ما لا تتوانى إسرائيل في استخدامه حتى حدود الإفراط الضارّ، حين عملوا على  توسيع مفهوم معاداة السامية؛ ليشمل انتقاد إسرائيل وحكومتها، وممارسات جيشها، ليكون ذلك التعسُّف، على حساب صون مفهوم العداء للسامية، إذ من شأن كبْت الفعاليات الفكرية والثقافية والتعليمية، عن التعبير عن رفضها واحتجاجها على إرهاب إسرائيل، الممارَس على المدنيين الفلسطينيين، على يد جنود أو على يد مستوطنين بحماية من جيش الاحتلال، من شأن ذلك أن يعمل على إضعاف مفهوم محاربة العداء للسامية، لأنه حُمِّل فوق طاقته، وهو ما لا يصمد، أمام استمرارية الاستهتار الاحتلالي بالقانون الدولي، وتعزيز صورة إسرائيل دولةً فوق القانون.

ولا يبعد تأثير عقدة البارانويا، بوجهها الثاني، عن هذه الاستباحة الشاملة لكل مظهر حياة في قطاع غزة، إذ عزَّ عليهم، حتى  الإصابة بالجنون والهستيريا، أنْ يتعرَّضوا لهجوم أكتوبر الذي نال من صورة جيشهم، ومن تفوُّقهم الرَّدْعي والتقني والأمني، حين تنوقلت صور الجنود، على نطاق واسع، وهم في صورة مُذلِّة، في حالة من الهلع والصدمة، وحين رأى العالم سرعة انهيار قواعدهم العسكرية، أمام مقاتلين، بأسلحة، خفيفة، خرجوا من قطاعٍ محاصَر منذ سنوات،  وكانوا يختلسون التدريب اختلاسًا، من وراء رقابة دولة الاحتلال البالغة الدقة والإحكام، والشمول.

ولذلك انطلقوا، وتحت تأثير هذه البارانويا أيضًا مروّجين، لتسويق ما هم مزمعون عليه من تدمير غير مسبوق، أنه لا بشرَ في قطاع غزة، إنهم حيوانات بشرية، ولا أبرياء في القطاع، إنهم هم مَن أخرجوا، وأنجبوا هذه الظاهرة، التي اجترأت على المساس بصورتهم الموهومة المضخَّمة، وأن هؤلاء (المدنيِّين) هم من هلَّلوا وفرحوا بعملية طوفان الأقصى. وكأنهم يستكثرون على شعب عانى حروبًا متعدِّدة في العقدين الأخيرين، وعانى إفقارًا، وحصارًا خانقًا، مُلْجِئًا إلى المغامرة بالحياة، والغرَق في البحر، للهجرة من غزة، وشعبًا جُوبِه بقتل العشرات منه، حين خرج باحتجاجات سلمية،  بـ "مسيرات العودة"، حيثُ دَعت إلى حراكٍ سلمي فلسطيني، يبدأ يوم الجُمعة 30 من مارس 2018، واستمرَّت، كل يوم جمعة، حتى  ديسمبر/كانون الأول 2019، وبالرغم من أن تلك الاحتجاجات لم تمثِّل أيَّ خطر على حياة الجنود الرابضين على الحدود، إلا أنهم، استنادًا إلى أرقام مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية، وحتى الخامس عشر من آذار 2019 كان جنود الاحتلال قتلوا ما مجموعه 192 فلسطينيًّا (بمَن في ذلك 40 طفلًا) في حين أُصيب أكثر من 28,000 بجراح. ومنهم أعداد كبيرة أصيبوا بإعاقات دائمة.

وبعد، فلعلَّ قادة إسرائيل يعبِّرون بهذا الإمعان في تجاهُل العالم، والانعزال عنه، عن يأسٍ مستحكِم من أنْ ينالوا، بعد الوعي بواقع الصراع وتطوراته، تأييدًا حقيقيًّا واسعًا، فهم خاسرون، من هذه الناحية، ولا بدِّ من الإسفار عن الوجه.