هل ينتهي الاستبداد مع رحيل المستبد؟

2023.06.06 | 18:27 دمشق

هل ينتهي الاستبداد مع رحيل المستبد؟
+A
حجم الخط
-A

في معرض الحديث عن الاستبداد والطغيان لابد لنا من تأمّلات عن فهم حقيقة الأمراض، وماهيّة الآثار المجتمعية التي يخلفها الاستبداد في أيام بقائه وبعد رحيله.

قٌبيل الثورات العربية كانت الشعوب ترزح تحت وطأة ثقافة استبدادية تتعامل مع السلطة من دون وعي أو إدراك، فكانت تؤلّه الديكتاتور وتصلي له ومن أجله وترفع له شعارات رنانة في كل الميادين وتصنع له تماثيل لا تقوى على تحطيمها كمرحلة لاحقة، وتعطيه سوط العذاب لتكون بذلك الجلاّد والضحية في آن معاً، غير مدركة أن ما سبق يعطي المستبد سلطة أكثر مما يطلب وكما تذكر صفحات التاريخ أن نابليون اشتكى ذات مرة أن الناس يعطوه من السلطة أكثر مما ينبغي.

لقد عمدت نظم الاستبداد في الزمن الحاضر أكثر من ذي قبل على إفساد عملية التربية وجعلت نتائجها تصبّ في مصلحتهم، لقناعتهم الراسخة أن إفساد التربية هو إفساد للسياسة وأن إصلاح التربية هو صلاح للسياسة، فلا يمكن في حال من الأحوال وجود تلك النّظم أصلاً في بيئة ذات تربية صالحة وسوية فجعلوا ديدنهم الوحيد إفساد البنية التعليمية للأجيال الصاعدة والتي كما معلومٌ لديهم أن تلك الأجيال ستساهم بشكل طبيعي ورئيسي في دعم طغيان الطغاة وتثبيتهم في أعلى الهرم.

مشكلة الشعوب العربية ليست في الظلم والاستبداد فهو زائل لا محالة وليست مع مستبد لا يحمل صفة الخلود فهو ليس غريباً عنهم فقد ولد بين ظهرانيهم وعاش بينهم ودرس في صفوفهم، بل إنّ مشكلة الشعوب العربية جمعاء هو التخلص من جميع أشكال الاستبداد العلنية منها والباطنة على حد سواء بعد رحيل الديكتاتور.

لطالما عزّز الإصلاحيّون دعم البنية التربوية ورفع سوية وجودة التعليم بكل السبل المتاحة، وراهنوا في ذلك على الكمّ المعرفي والثقافي القديم لدى بعض النّخب في المجتمع والمضي قدماً في تشكيل الوعي لدى الجماهير الذي اعتبروه الجندي الأول ورأس الحربة في مقارعة الطّغاة أينما وجدوا، لكن جهودهم قوبلت بالقمع والتّنكيل من قبل السلطة من جهة ومن عدم تقبّل الكتلة الحرجة من الجماهير التي ترى على أنهم ذات أهداف أيديولوجية معادية لهم من جهة أخرى.

هذه هي بعضُ من ملامح ثقافة الاستبداد والتي يجب أن تُزال من جذورها، لأن بقاءها واستمرارها حتى ولو تغيرت الشخوص لا يضمن المستقبل البتة ولا يحفظ للثورة مكتسباتها أبداً حتى وإن أتى بعد ذلك قسمُ غليظ أو وعود ثقيلة بالإصلاح.

بعد أفول وانجلاء عصر الاستبداد تظهر مهمّات جوهرية وحتمية تقع على عاتق النّخب الواعية والفاعلة، أولها إصلاح تربوي شامل في نسق الأخلاق العامة تجزيء ما قبلها وإنهاء الثقافة السوداء التي خُلقت من رحم السلطة المستبدة، وفصل الدّين عن السياسة لكي لا يرتدي الساسة عباءة الدّين من جديد فتهلكهما معاً، وتعزيز ثقافة الجوار لا الإقصاء والعمل على بناء المواطن العربي وإعادة ترتيب وعيه وتداول السلطة السياسية بشكل سلمي بعيداً عن العنف وسطوة السلاح، والتركيز على أن البقاء للشعوب وليس للقادة فهل تلك الشعوب قادرة على فعل ذلك.

بشارات الخلاص من آثار الاستبداد تبدو نادرة شحيحة توحي لكل من يراقب المشهد عن كثب حتمية الفشل والسقوط في مستنقع الإستعمار غير المباشر، والوقوع تحت وصاية الدول الغربية مع أني لا أؤمن بالحتميات لكن التغيير الذي طرأ على الدول العربية من انفتاح على الثقافات الأخرى والهواء المفتوح ينبأ بقرب الخلاص وكسر القيود المفروضة منذ عقود وبزوغ فجر الحّرية ذروة سنام الحق والشمس التي لا تغيب.