icon
التغطية الحية

السخرية السياسية في حكايات الحيوان (2 من 2)

2024.04.14 | 07:45 دمشق

3555645756
+A
حجم الخط
-A

في عام 1978 نـشر الكاتب السوري زكريا تامر مجموعة قصصية بعنوان «النمور في اليوم العاشر». في هذه المجموعة قصة تحمل العنوان نفسه، وتتحدث عن نجاح مُروِّض لنمر شرس خلال أيام قليلة. يقول المُرَوِّضُ لتلاميذه، "إذا أردتم حقًّا أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم [هي] هدفكم الأول ... انظروا إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير، ويصبح وديعًا ولطيفًا ومطيعًا كطفل صغير، فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين [من] لا يملكه، وتعلموا" (54).

وبعد بضع مساومات لئيمة مذلة (كإجباره على المواء مثل القط) يوافق النمر في اليوم السابع على أن ينهق مثل الحمار. وفي اليوم الثامن يأمره المروض أن يصفق حين ينتهي من إلقاء مطلع الخطبة التالية، "أيها المواطنون، سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصـريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصـر." وحين يقول النمر إنه لم يفهم ما قاله المروض يجيبه هذا بأن عليه أن يُعجَب بكل ما يقوله، ويصفقَ إعجابًا. يعتذر النمر للمروض ويعترف بأنه جاهل أمي، فيوافق على التصفيق مجاملةً. إلا أن المروض يفاجئه بقوله، "أنا لا أحب النفاق والمنافقين، ستُحرَمُ اليوم من الطعام عقابًا لك".

وفي اليوم التاسع يأتي المروض للنمر بحزمة من الحشائش. يعترض النمر قائلًا إنه من آكلي اللحوم، لكن المروض يخبره أنه من الآن فصاعدًا لن يأكل إلا الحشائش. وبالفعل يعود النمر إليها حين يقرصه الجوع بأنيابٍ حِدادٍ، ويبدأ باستساغتها بالتدريج. ويختتم تامر قصته بالجملة التالية، "وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطنًا، والقفصُ مدينة".

وفي قصيدة لأحمد مطر بعنوان "التقرير" يسخر الشاعر من بطش الحُكَّام:

"كلب والينا المعظَّم

عضني اليوم ومات

فدعاني حارس الأمن لأعدم

عندما أثبت تقرير الوفاة

أن كلب السيد الوالي تسمَّم".

في قصيدة عنوانها "ثغاء" يسخر الشاعر التونـسي المنصف المزغني، على شاكلة جورج أوروِل، من البرلمانات العربية:

"خروفٌ دخل البرلمان

قال: ماع

فجاء الصدى: إجماع".

وفي شهر نيسان 1995 سُجِن الشاعر الأردني ماجد المجالي، وهو رجلٌ ضريرٌ، بسبب نشـره قصيدةً هجائيةً لاذعةً بعنوان "اللُّزومية التَّيْسِيّة المَعْمَعِيَّة" التي يقول فيها:

"نحنُ مَعْ دومًا، ودومًا نحنُ مَعْ كُلّمـا أقبـلَ تَيْسٌ صاح مَعْ

قلت: مَعْ مَن؟ قال: مَـعْ! كلُّ مـا نقـصُد خيرُ المجتمَعْ

نحن مـعْ رمزٍ بـهِ وحدتُنـا فَرّقَ الشـعبَ لدينا أو جمَـعْ

أشعـلوا أوطانَنـا سيجـارةً أشغلوا المخـتارَ في جَمْعِ القُمَعْ

ما لنا عينٌ تَرى أوساخَنا ما لنا ذوقٌ سليمٌ أو سَمَعْ

ليس عيشُ الناسِ مِنْ حاجاتِنا ما لنا فيه طُموحٌ أو طَمَعْ

فاحفظوها ردّدوهـا دائـمًـا نحن مَعْ مَعْ نحن مَعْ مَعْ نحن مَعْ".

ومنذ اندلاع الثورة في سوريا سنة 2011، والمعارضون لنظام بشار الأسد يرددون البيتين التاليين، وينسبونهما للمتنبي، والمتنبي منهما براء:

"مات في القرية كلبٌ فاسترحنا من عُواه 

خلَّف الملعونُ جروًا فاقَ في النَّبْحِ أباه".

لا شك إن نسبة البيتين لأيقونة الشعر العربي الكلاسيكي يُراد منها توجيه اللوم للنفس التي صدَّقت بسذاجةٍ أن بشار الأسد خيرٌ من أبيه، بالرغم من ’نبوءة‘ المتنبي منذ القدم بهذا المصير لأهل القرية السُّذَّج.

***

يتخذ العرب، كغيرهم من الشعوب ولا سيما الهنود الأمريكيين، من أسماء بعض الحيوانات أسماءً لأبنائهم وبناتهم. فيسمون الذَّكر من أبنائهم: أسامة، باز، بَهْنس، حمزة، حيدر، ذؤيب، ذئب، رِئبال، سرحان، شبل، صقر، ضِرغام، عباس، فهد، قَسْورة، ليث، نمر، هيثم. ويطلقون على بناتهم أسماءً مثل: أيلا، خِشْفة، رشا، ريم، ظبية، غزالة، مها، نايا، إلخ. أن يسمي العربي ابنه بأسماء الأسد أو غيرِه تَيَمُّنًّا بشجاعة هذه الكواسر، أو أن يتوسَّم في ابنته جَمالَ الغزلان، فأمر مفهوم لا يستدعي العجب. لكن أن يسمي أبناءه بأسماء حيوانات ليس فيها من الصفات الحسنة ما يُغري باستعارة أسمائها فأمرٌ يستدعي تأملًا مَليًّا. ومن أسماء الحيوانات والحـشرات المذمومة التي اتخذها العرب لأبنائهم قديمًا وحديثًا: أرقَم، ثعلب، ثور، جحش، جراد، جرادة، جربوع، جُندب، جَمَل، خروف، ديك، عِجل، ضَب، قِط، كبش، كلاب، مُعاوية.

صحيحٌ أن هذه الأسماء الأخيرة نادرة لا تداني نسبة الفئة الأولى من أسماء الحيوانات الأرقى مكانةً والأجمل قَوامًا، لكن يبدو أن العرب لم يكونوا يقيمون وزنًا لهذه التمايزات والاعتراضات المعاصرة التي تعيب على البشـر هذه الأسماء الشاذة. فهذا عليُّ بن الجهم، الشاعر البدوي الناطق بالفطرة، لا يرى غضاضةً من تشبيه المتوكل على الله العباسي بالكلب والتيس، وهو يريد بذلك مدحًا لا ذمًّا:

"أنتَ كالكلب في حفاظك للوُدِّ   وكالتَّيْسِ في قِراعِ الخُطوبِ"

وفي القرآن الكريم، سُمي عدد من السور بأسماء الحيوان أو الحشـرات، وهي على التوالي: البقرة، الأنعام، النحل، النمل، العنكبوت، العاديات، الفيل. كما أقسـم الله بالخيل في سورة العاديات، واتخذ من الإبل آيةً على قدرته في عجائب الخلق، ﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَت﴾ (الغاشية: 17). وقد ورد في الحديث الشـريف، "كأني بجبّارٍ يعمِد إلى سَخْلي فيقتله." والسَّخْل في الأَصل هو ولد الغَنَم، لكنه يُطلق مجازًا على المولود المُحَبَّب إِلى أَبويه.(1) ومن غرائب التسميات عند العرب أنهم لا يستعيرون من الحيوانات أسماءها لأبنائهم فحسب، بل إنهم أيضًا يُكَنُّون الحيوانات بأسمائهم هم (علمًا أنه في بعض الأحيان تصبح مسألة تبادل الأسماء بين الإنسان والحيوان كمسألة البيضة والدجاجة). فعلى سبيل المثال، يذكر الدُّمَيْري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى» أن الديك وحده يُكَنّى بثماني كُنى بشـرية: أبو حسان، أبو حماد، أبو سليمان، أبو عقبة، أبو مُدلج، أبو المنذر، أبو نبهان، أبو يقظان. والأسد كُنيته أبو الحارث، والذئب أبو غالب، والثعلب أبو النجم أو أبو الحُصين، والضبعة أم عامر، والكلب أبو خالد، والبطة أم حفصة، والغراب أبو القعقاع، والعُقاب أبو الهيثم، والعصفور أبو محرز، والخنزير أبو زرعة، والفيل أبو الحجّاج، والجمل أبو صفوان، والفرس أم منقذ، والبغل أبو المختار، والحمار أبو زياد أو أبو صابر.(2)

ولهذا يجب ألا نستغرب إذا صادفنا بعض الشعراء يعبرون عن أُنسهم بالحيوان وتفضيلهم له على بني جلدتهم. فهذا الشاعر الجاهلي الشَّنفرى يأنس بالذئاب والثعابين والضباع أنْسًا يُغنيه عن أهله وقومه:

"ولي دونَكم أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌّ  وأرقطُ زُهلولٌ وعَرفاءُ جَيْألُ 

هم الأهلُ، لا مُستودَعُ السـرِّ ذائعٌ  لديهم ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ".

وكذلك يجد الشاعر العباسي الظريف الأحيمِر السعدي أن الذئب أفضل صحبةً من بني الإنسان:

"عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئب إذ عَوى  وصوَّتَ إنسانٌ فَكِدْتُ أطيرُ 

يَرى اللَهُ إِنّي لِلأَنيسِ لَكارِهٌ  وَتُبغِضُهُم لي مُقلَةٌ وَضَميرُ".

يمكن القول عن هذين الشاعرين إنهما كان لِصَّيَن وصُعلوكين خارجين عن أعراف مجتمعهما الذي نبذهما، فراحا يبحثان عن صحبة بديلة خارج إطار مجتمعهما البشـري السَّوِي. وهكذا يصح عليهما ما قاله واصل بن عطاء، زعيمُ المعتزلة، في سياقٍ مشابهٍ:

"وكلٌّ يميلُ إلى شَكْلِه  كَأُنـس الخَـنافِـس بالعَـقْرب"

وكذلك وجد مجنون ليلى نفسه منبوذًا من مجتمعه، بعد أن أحب ابنة عمه وشبَّب بها، فالتجأ إلى سرب القطا بعد أن خذله قومه ومنعوه من الزواج من حبيبته وأبعدوها عنه:

"شكوتُ إلى سِرْب القطا إذ مَرَرْنَ بي  فقلت ومثلي بالبكاءِ جَديرُ

 أَسِرْبَ القطا هل من مُعيرٍ جناحَه  لَعَلّي إلى من قد هَوَيْتُ أطيرُ

 فجاوبْنَني من فوقِ غُصْنِ أراكةٍ  ألا كُلُّنا يا مُستعيرُ مُعيرُ

  وأيُّ قطاةٍ لم تُعِرْكَ جناحَها  فعاشت بِضُـرٍّ والجناحُ كسيرُ"

في هذه الأمثلة الثلاثة نجد أن الشاعر، حين ينبذه قومه ويتبرؤون منه إما لتصعلكه وقطع الطريق وإما لتشبيبه بإحدى بنات القبيلة، يلتجئ حكمًا إلى الوحش والزواحف والطير يبحث عن مؤنسٍ ومُسعِدٍ له في قفار هذي الحياة. وحتى المتنبي عبّر عن تفضيله لصهوة الحصان على أي مكان آخر، ولصحبة الكِتاب على صحبة البشر:

"أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ  وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ"

وكان المتنبي يشعر بالاغتراب من مجتمعه أيضًا، إذ نجده في القصيدة ذاتها يشبه نفسه تارةً بعيسى المسيح بين اليهود وتارةً بالنبي صالحٍ في ثمود:

"مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ  كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ

أنَا في أُمّةٍ – تَدارَكَهَا اللّـــــــــهُ – غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ".

أما بعد، فيمكن القول إن الحيوان كان شريك الإنسان لا في معاشه فحسب، بل في خطابه الأدبي أيضًا، ولا سيما حين يُعزُّ على الأديب التعبيرُ عن آرائه السياسية والاجتماعية تعبيرًا صريحًا مباشرًا، فيتخذ من الحيوان عصًا يتوكأ عليها وجُنَّةً يتقي بها مقصَّ الرقيب وسِهامَ الاستبداد. ومن عجبٍ أن الحكاية الرمزية، حين توضع على لسان الحيوان، تصبحُ أبلغَ أثرًا لدى المتلقي وأشدَّ إيلامًا للطغاة. وليس أدلُّ على ذلك من المصير الذي لاقاه مؤلفو هذه الحكايات ومترجموها، إما قتلًا وإما نفيًا، ومن تَحَوُّل هذه الحكايات إلى تحفٍ خالدةٍ من الأدب العالمي، وما ذلك إلا لقيمتها الأدبية ولتمجيدها واحدةً من أهم القيم في المجتمعات البشرية وأنبلها: الحرية!


1- انظر مادة ’سخل‘ في «لسان العرب». والغريب أن كلمة kid بالإنجليزية تعني أصلًا السَّخْل، فصارت تُطلق، من باب التحبب، على الأطفال أيضًا.
2- أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي، «كتاب مبادئ اللغة» (بيروت: دار الكتب العلمية، 1985)، ص 171.