icon
التغطية الحية

من عكاز العائلة إلى العمل الشاق.. كيف يحوّل أطفال سوريا العمل إلى بوابة نجاة؟

2024.09.26 | 07:50 دمشق

آخر تحديث: 26.09.2024 | 10:09 دمشق

أحمد
يدخل كثير من الأطفال والمراهقين السوريين مجالات مختلفة للعمل في تركيا تحوّل طفولتهم إلى نضج مبكر يحمل هموماً قبل أوانها
تلفزيون سوريا ـ نور الخطيب
+A
حجم الخط
-A

مع الحرب المستمرة في سوريا التي مزقت نسيج المجتمع، وجد العديد من الأطفال والمراهقين السوريين أنفسهم مجبرين على دخول سوق العمل في سن مبكرة، وبين الأمل والأحلام بالمستقبل والمسؤولية والواقع الصعب، يحمل هؤلاء الأطفال على أكتافهم عبء إعالة أسرهم والمساهمة في تلبية احتياجاتها الأساسية، خصوصاً في دول اللجوء مثل تركيا.

وبين عكاز حقيقي يعتمد عليه الأهل، وفتى مسؤول عازم على تأمين مستلزماته بنفسه، يدخل كثير من الأطفال والمراهقين السوريين مجالات مختلفة للعمل في تركيا، تحوّل طفولتهم إلى نضج مبكر يحمل هموماً قبل أوانها.

أحمد وعبد اللطيف وقتيبة ويحيى الذين التقيناهم في مدينة إسطنبول التركية أثناء إعداد هذا التقرير، مراهقون وشبان سوريون يمثّلون جيلاً يتمسك ببوادر الأمل من خلال عملهم الشاق، يحمل كل منهم قصة فريدة تجمع بين التحدي والإصرار، حولوا واقعهم الصعب والمسؤولية الملقاة عليهم إلى فرص وبوابة نحو النجاة.

أحمد: من الورشة إلى الملعب

تراه مبتهجاً نظيفاً يرتدي "الباتيناج" الذي يستخدمه باحترافية عالية، ويلهو بين أقرانه في الحديقة، فتخاله طفلاً مرفهاً، إلا أنه خبأ وراء تلك البهجة يافعاً مسؤولاً عاد للتو من عمله في ورشة " مكنسيان" بعد أن استحم رامياً مسؤوليته مع ملابس العمل وغباره لساعات، لينخرط فيما تبقى من طفولته ويعيش المتعة والحلم مع الأصدقاء في ساعات أخرى.

أحمد الذي يبلغ 12 عاماً وينحدر من مدينة دمشق، جاء إلى تركيا في العام 2018 ويعيش مع أسرته في مدينة إسطنبول، لا يطلب من والده لوازم العام الدراسي من قرطاسية وغيرها، فقد عمل على تأمينها صيفاً كاملاً.

أحمد
أحمد أثناء اللعب في حديقة قرب منزله - تلفزيون سوريا

يقول أحمد "بدأت بالعمل منذ الصيف الماضي، بحثت بنفسي عن عمل في رغبة مني بمساعدة والدي بعد أن شعرت انني أهدر الكثير من الوقت في المنزل دون جدوى، حفزتني والدتي على الإحساس بالمسؤولية مبكراً، وتقدير جهود والدي الذي يعمل ليلاً نهاراً ليؤمن متطلباتنا".

ويضيف أحمد "بعد أن بدأت بالعمل أصبحت أشعر أكثر بتعب والدي ولم أعد أطلب منه نقوداً، وإن عرض علي مصروفاً فإنني أرفض، بل على العكس أسأله دائماً إن كان بحاجة لمساعدتي".

خافت والدة أحمد أن يصل لمرحلة الشباب صفر اليدين بعد أن كاد يخسر تعليمه بسبب عدم قدرته على التفوق بالدراسة بلغة جديدة ، فآثرت أن يعوض ذلك بتدربه المبكر على تعلم المهنة والإحساس بالمسؤوليه تجاه نفسه وعائلته، تقول "أردت أن يكبر ابني كما كبر أبوه وغيره من شباب سوريا، بالذهاب إلى العمل صيفاً وإلى المدرسة شتاء، قبل أن يفوته قطار تعلّم الحرفة إن فاته قطار التعليم المدرسي".

أحمد
أحمد في ورشة المكنسيان التي عمل فيها طوال الصيف - تلفزيون سوريا

ووفق والدته، تمكن أحمد خلال الصيف من تأمين ثمن هاتف نقال و"باتيناج" بالإضافة إلى لوازم المدرسة، وتضيف "قدم أحمد لإخوته بعض الهدايا، وساعدهم في المصروف، إضافة إلى 600 ليرة تركية يقدمها لي كل أسبوع، ليسهم مع والده في تأمين متطلبات المنزل اليومية من مأكل ومشرب".

أحمد الذي شعر بالمسؤولية مبكراً وانخرط في سوق العمل دون أن يشعر، لم تثنه انشغالاته يوماً عن حلمه الأكبر الذي يسعى لتحقيقه، وهو أن يصبح لاعب كرة قدم محترفاً، يقول أحمد "أذهب إلى النادي الذي تمكنت من دفع أقساطه بنفسي، لأتدرب في ساعات بعد العمل مرتين أسبوعياً، وأمارس اللعب مع أصدقائي في الحديقة، وأحياناً نقسم أنفسنا إلى فريقين تحت اسم "فريق السوريين و فريق الأتراك".

إلا أن حلم أحمد بأن يكون لاعباً محترفاً بأحد المنتخبات يظل ناقصاُ طالما أنه لا يمتلك جنسية بلد تخوّله بذلك، مع عدم إمكانية العودة إلى سوريا.

عبد اللطيف: حمل ثقيل على كاهل صغير

إذا وقعت الحاجة، فلا يعود لعمالة الأطفال اعتبار يذكر، فيتجاوزها الأهل والطفل الذي يبدأ مبكراً الإحساس بالمسؤولية تجاه نفسه وأسرته.

ام عبد اللطيف، التي تنحدر وعائلتها من مدينة داريا في ريف دمشق، هي أم لثلاث بنات وطفل واحد، وبعد أن فقدت زوجها إثر وصوله اليونان قاصداً أوروبا، تضطر لدفع ابنها عبد اللطيف ذي الـ 13 عاماً للعمل معها في المطعم نفسه الذي تعمل فيه طاهيةً.

عبد اللطيف
عبد اللطيف في المطعم الذي يعمل فيه مع أمه - تلفزيون سوريا

تقول أم عبد اللطيف "بعد وفاة زوجي، تعمل ابنتي الكبرى، 21 عاماً، في عيادة للأسنان، وتسهم معي في مصروف المنزل، كما اضطررت لإنزال عبد اللطيف معي في العمل ليطمئن قلبي عليه أمام عيني، فهو ما يزال غضاً وأخاف عليه ألا يتدبر أموره في ظل غياب والده".

وتضيف "لم آبه بكونه دون السن المسموحة للعمل، فعبد اللطيف أصلاً لم يتمكن من الذهاب يوماً إلى المدرسة، وحاله كحال أخواته الثلاث، فلم نتمكن من تحديث أوراقنا الرسمية في ظل الظروف الضاغطة التي يعيشها السوريون مؤخراً".

عبد اللطيف
لا تفارق عبد اللطيف حقيبة والده الذي يعتبرها من رائحته - تلفزيون سوريا

عبد اللطيف الذي كان يحلم بحياة أكثر طمأنينة راح والده يبحث له عنها فتوفي قبل أن يجدها وراء البحار، يحلم اليوم بأن يؤسسها بنفسه بمواظبته على العمل ليلاً نهاراً حاملأً حقيبة والده الذي يراه من خلالها ويشتم رائحته فيها، محاولاً بعمله الخروج من محنة الفقد إلى دنيا جديدة أكثر إشراقاً.

يقول عبد اللطيف "أحزن كثيراً لأنني لن أردد كلمة (بابا) مجدداً، إلا أنني أواسي نفسي بأشيائه وحقيبته التي أرى وجهه فيها، وأحاول أن آخذ مكانه بالعمل المتواصل وحمل العبء مع والدتي".

معاش قتيبة يبقي منزل عائلته مفتوحاً

لا ينشغل قتيبة مع بداية العام الدراسي بتأمين لوازم المدرسة، فقد تركها متحسراً، بعد أن كانت تعني له أكبر سلاح يستطيع أن يجابه به الحياة.

اضطر قتيبة، البالغ من العمر اليوم 16 عاماً، لترك المدرسة والعمل والمساهمة بإعالة أسرته، وانتقل بعد تصاعد الأحداث في ريف دمشق مع أسرته  إلى مدينة الرقة حيث يمتلك جده أرضاً يزرع فيها التين الشوكي "الصبارة"، ليبدأ مباشرة بالعمل مع والده وشقيقيه.

يقول قتيبة "كنت في عمر السابعة عندما بدأت ببيع الصبارة والخوخ والجارينك، كنا نقطفها من بستان جدي وننزل لبيعها على بسطة في وسط المدينة".

قتيبة
قتيبة خلال عمله في ورشة خياطة فساتين الأعراس - تلفزيون سوريا

تلقى قتيبه تعليمه سنتين في مدينة الرقة، وانتقل بعد ذلك إلى تركيا في أواخر العام 2016 عندما كان في الصف الثالث الابتدائي، واستمر بتعليمه في تركيا حتى وصل للصف التاسع ليتركها بعدها نهائياً.

استمر قتيبة على نهجه في العمل خلال العطلة الصيفية، يقول "كنت أعمل في الصيف وأدرس في الشتاء حتى أنهيت الصف التاسع، حينها تركت المدرسة نهائياً حيث وقع على عاتقي مع أخي تحمل مصروف العائلة، بعد أن فقد أبي قدرته على العمل".

يعمل اليوم قتيبة في ورشة لخياطة فساتين الأعراس بدوام كامل، ويتسلّم معاشه الأسبوعي ليعطيه كاملاً لوالدته التي تقوم من جانبها بإدارة أمور المنزل من تسوق وفواتير ومصاريف أخرى، ويضيف قتيبة "تعطيني أمي مصروفي الشخصي من إيجار مواصلات ورصيد للهاتف، ثم تدخر ما يمكن أن يتبقى للطوارئ".

قتيبة
قتيبة خلال عمله في ورشة خياطة فساتين الأعراس - تلفزيون سوريا

قتيبة هاوٍ لكرة القدم ويلعب بمهارة قياساً بأقرانه، إلا أنه أصيب خلال مباراة شارك فيها العام الماضي في النادي الذي يتدرب فيه، فترك اللعب بعدها على أمل التعافي والعودة من جديد.

يحب قتيبة اليوم المهنة التي يعمل بها، ويسعى ليحرز تطوراً في تعلمها، ويتمنى أن يصبح مصصماً للأزياء يوماً ما.

بيحيى الأمل يحيا

بجسد نحيل يمنحه الخفة في الحركة، وضحكة بريئة لا تخلو من شقاوة واضحة تستقطب محبة كل من يراه حتى اليوم، كان يحيى ذو السنوات السبع يستقطب الزبائن إلى محل عمه الصراف في مدينة حمص السورية، ليحصل هو على " كمسيون" يبتهج به ويركض إلى  أمه لتدخره له ويكون أول دخلٍ له تقاضاه آنذاك في العام 2007، ليغدو بعد مرور عشر سنوات مسؤولاً عن عائلة بأكملها توزعت بين سوريا وتركيا والجزائر.

يقول والد يحيى إن السوريين "لم يأتوا من مجتمع كسول، فقد تربى معظم شباب سوريا كما تربينا على العمل في الصيف خلال سنوات التحصيل المدرسي، وأما من لم يجد أهله جدوى من ذهابه للمدرسة، فقد كانوا يكتفون بتعليمه الابتدائي، ويدخل بعدها في سن مبكرة وبشكل جدي في ميادين العمل المختلفة".

عمل يحيى في السنوات الأولى من عمر الثورة في سوريا، حيث شهدت مدينة حمص آنذاك مظاهرات حاشدة كان يبيع خلالها الماء والعصير والقشطلية والبسبوسة المنزلية، وما إن فرض الحصار على حمص القديمة حيث كان يقيم يحيى مع عائلته، حتى تكاثف جهده في العمل الجاد تحت ظروف الحصار الضاغطة.

يضيف يحيى بفخر "عندما غادرت سوريا كان بحوزتي 200 ألف ليرة سورية، كنت قد أودعت منها تسعين ألفاً مع جدي".

انتقل يحيى مع والده للعيش في تركيا في عام 2014، ولم يجد أي صعوبة بالعمل فوراً في ميادين مختلفة، حيث كان قد انقطع عن التعليم في سوريا منذ أن فرض الحصار على منطقته، لذا فلم يبذل أي جهد للبحث عن فرصة لمواكبة التعليم، وانخرط في العمل الذي اعتاد عليه منذ سنواته الغضّة.

يتذكر يحيى "بداية بعت السميت والماء والشواحن والبطاريات، حين كانت الناس تهاجر إلى أوروبا كنت أبيع مخازن للبطاريات وبوالين لحفظ الأشياء الشخصية في رحلات البحر، بعت الورود في عيد الحب، كما بعت الشمسيات في المطر، كنت أحمل على ظهري نحو 400 شمسية، وما إن يحل المساء حتى أكون قد بعتها جميعها، بعت العطور والألعاب وكل ما يخطر على بال".

تعرض والد يحيى لحادث في 2017، أسفر عن توقفه عن العمل وانتقال مسؤولية العائلة بأكملها ليحيى الذي راح يبحث منذ ذلك الوقت عن عمل مستقر يمكّنه من حمل عبئه الثقيل ليجد في السياحة ضالته، بعد أن انضم إلى شركة عربية للسياحة في العام ذاته وأخذ من هناك المفاتيح الأولى للعبة هذه المهنة التي قلبت حياته رأساً على عقب.

يقول يحيى "كنت بداية أستقبل السياح من المطار وأوصلهم إلى مقر الشركة لتبدأ رحلتهم، وبعد أن لاحظت استئناس السائحين العرب لوجود شبان سوريين يتقنون اللغة التركية التي كنت قد تجاوزتها آنذاك والتي تهون عليهم رحلتهم أيقنت أنه بإمكاني أن أعمل بمفردي دون الحاجة للعمل مع شركة أو مكتب".

ليحيى اليوم قدر لا يستهان به من الزبائن القادمين من بلدان عربية مختلفة، قاصدين يحيى تحديداً، ليكون لهم مرشداً ومترجماً ومعيناً في تبضع مشترياتهم وشحنها، وذلك بعد أن اقتنى سيارته الخاصة التي سهلت عليه عمله.

عمله في السياحة وتنقله في الطبيعة أظهر جانباً فنياً عالي المستوى عند الشاب الشغوف، فبرزت موهبة لا تخفى على أحد في التصوير الفوتوغرافي.

وعلى الرغم من النقلة الواضحة التي أحدثها العمل في السياحة في حياة يحيى، إلا أنه يعتبرها فترة مؤقتة من حياته، استثمرها في إدارة شؤون العائلة، فبذرة التاجر الصغير ما تزال حاضرة وتنمو داخل الشاب الشغوف الذي أتم اليوم الرابعة والعشرين من عمره، ويخطط اليوم للسفر والعمل في التجارة على نطاق واسع.

يعتبر والد يحيى أنه "بيحيى وأمثاله يحيا الأمل بولادة أجيال جديدة نشيطة ومبتكرة، فرض عليهم تغرّبهم أن يكونوا أكثر تعايشاً وقدرة على العيش والإنتاج في أقسى الظروف"، مشيراً إلى أنه "لا ندري لعل هؤلاء الفتية وغيرهم هم باكورة لرجالات سيصنعون سوريا جديدة نحلم ويحلم بها كل حر".