أدونيس والعنف والإسلام (1)

2019.12.08 | 15:38 دمشق

adwnys.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يهتمّ العالَم العربيّ كثيراً بصدور كتاب لأدونيس باللغة الفرنسية عام 2015، تحت عنوان: "العنف والإسلام"، ثم صدرت ترجمته الإنكليزية عام 2016. والكتاب -كما هو واضحٌ- ليس موجّهاً إلى القارئ العربي، بل إلى الغرب إبّانَ صعود اليمين المتطرّف، ويتّضح من العنوان أن صاحبه يربط العنفَ بالإسلام.

للدخول إلى الكتاب الذي جاء على شكل حوارٍ طويل ومملّ، أجرتْهُ معه الأكاديمية المغربية حورية عبد الواحد؛ ينبغي توضيح مفهوميّ الدين والإسلام عند أدونيس، فهما يختلفان جليّاً عمّا كنّا نحسَبُه سابقاً، ثم أعرضُ آراءه حول ظاهرتي العنف والتعذيب وربطهما بالإسلام. وأخصّص المقال القادم لآرائه حول الربيع العربي والمرأة، مع نقدٍ لأبرز سماتِ الفكْر المطروح في هذا الكتاب كالعنصرية واللاعِلمية واللاتاريخية.

الدين محرّك العالَم:

في البداية نلاحظ أن مقاربة أدونيس للدين لا تُعير أيَّ اهتمامٍ للعلم والتفسيرات العلمية، فلن تجد عنده نفحاتٍ من فويرباخ أو دوركهايم مثلًا. حيث أنّ مفهومه للدين هو المفهوم الغيبي الميتافيزيقي التقليدي، ليس ذاك الشائع لدى جميع المؤمنين، بل عند المنغلِقين والسُّذّج منهم. إذ هو يتحدّث عن الدين وكأنه شيءٌ سحريّ هبَطَ بسلّة من السماء، دون أن تكون له أيُّ علاقة بالزمان والمكان اللذين هبطَ فيهما، ولا بالظروف المادية والثقافية للمجتمع كأنماط الإنتاج ونظام الحكم والتنظيم الاجتماعي والمعتقدات... بل إنّ الدين -عند أدونيس- هو الذي يوجُد كل ذلك. وكمثالٍ على نظرته اللاتاريخية للدين نقتبس: "الإسلام وُلدَ كاملاً، وهو يقف ضدّ كل ما كان قبله وكل ما جاء بعده" (ص20).

مقاربة أدونيس للدين لا تُعير أيَّ اهتمامٍ للعلم والتفسيرات العلمية، فلن تجد عنده نفحاتٍ من فويرباخ أو دوركهايم مثلًا. حيث إنّ مفهومه للدين هو المفهوم الغيبي الميتافيزيقي التقليدي

وكذلك تجده يختصر الأفراد والمجتمعات والشعوب ببُعدٍ واحدٍ هو الدين، ويُفسّر كل ما يجري في العالَم (عالَمنا العربي على الأقل) بالدين وحده، دون إعطاء أي أهميّة لعشراتِ العلوم التي أنجبتها البشرية على مدار القرون. وكمثالٍ على هذه الرؤية الثقافويّة: "جميعُ مشكلاتنا نابعة من النصّ المؤسّس [القرآن] الذي يحكم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، منذ بدايتها وحتى الآن" (ص77).

إذاً؛ أدونيس يفسّر كل ما جرى في العالم العربي منذ نزول الوحي وحتى اليوم بالدين فقط، وكأن الدين هو محرّك التاريخ، وهو سبب قيام الدول وسقوطها. والدين هو محرّك البشر (المسلمين) الذين يراهم أدونيس مُسيَّرين جهَلَة، لا يعرفون ما يفعلون أو يقولون. وبالتالي فهو الذي يعرف ما في دواخلهم، وينطق بالنيابة عنهم.

الإسلام الصحيح:

إنّ مفهوم الإسلام عند أدونيس هو المفهوم السلَفيّ المتشدّد ذاته، وكلُّ إسلام يخرج عن هذا الإطار الضيّق لا يعود إسلاماً، أي يُكفَّر ويُطرَد من الملّة. قد يكون هذا الرأيُ غريباً للوهلة الأولى لأنّ أدونيس معروفٌ بكونه "عَلْمانياً"، وناقداً للإسلام والإسلام السياسي. لكنّ إمعانَ الفكر في كلامه يكشف أنه يدور في الدائرة المغلقة ذاتها التي يدور فيها الأصوليّون، فهو لا يرى العالم إلا من منظور الدين، وكأنّ العالَم جزءٌ من الدين أو تابعٌ له أو منبَثقٌ عنه. فمثلاً تراهُ يُخرج جميع الفِرَق الإسلامية من غير الإسلام التقليدي (السُّنَني) من الإسلام، باعتبارها فرِقاً مُنشقّة أو مهرطقة، ويُضفي على بعضها صفاتِ الثورية والتقدمية والاشتراكية. ثم يُخرج المتصوفة جميعاً من الإسلام، بما فيهم الإمام الغزالي. وكذلك يُخرج الفلاسفة والشعراء من الإسلام، ويكرر هذه الأفكار مراراً كقوله: "لم يشكل المعتزلة جزءاً من الكتلة المؤسّسيّة المسلمة، ولا المتصوفة أو الفلاسفة أو الشعراء. لم يكن أحدٌ من الفلاسفة مسلماً، لا ابن رشد ولا ابن سينا ولا الراوندي. فقط الغزالي لكنه صار متصوفاً فيما بعد" (ص23). وفي مكان آخر: "لم يكن أيُّ فيلسوف مسلماً قطّ" (ص11)، و "لا يوجد شاعر عظيم واحد كان مسلماً" (ص23). وهكذا يصبح أهمُّ فقيه في تاريخ الإسلام (الغزالي) ليس مسلماً، لأنه متصوّف. ويغدو قاضي قضاة المالكية (ابن رشد) ليس مسلماً، لأنه فيلسوف. حبّذا لو ذكر ابن حزم وابن تيمية من ضمن الأمثلة، لنعرف إذا كانا مسلمَين أم لا. 

إنّ العلّة التي يبرّر بها أدونيس إخراجَ هذه الفئات كلها من الإسلام؛ هي لأنهم (بعضهم) قد اصطدموا مع السلطة الدينية أو السياسية فيما مضى. لكننا نستطيع بهذه الطريقة ذاتها إخراجَ الحنابلة أيضاً من الإسلام، بحجّة الصدام بين ابن حنبل والمأمون. إنّ هذا المقياس الانتقائي المستخدَم لنفي صفة الإسلام عن الحضارة العربية الإسلامية، ثم عن الشعراء والمتكلّمين والمتصوّفة والفلاسفة؛ يمكن استخدامه للقول: "فرنسا لم تنجبْ فيلسوفاً واحداً عبر تاريخها"، فإذا ردَّ المستمعُ باسم "ديكارت"، نقول إنّ الكنيسة قد ضايقتْهُ فهربَ إلى هولندا، ثم أُدينَتْ فلسفتُه في هولندا فهربَ إلى السويد. وإذا قال "فولتير"؛ نقول إن الكنيسة والسلطة قد حاربتاه، فسُجنَ في الباستيل لمدة 11 عاماً. وهكذا...

يلاحظ القارئ أن أدونيس يطابقُ بين الإسلام وداعش مطابقةً كاملة، فهو يبدأ إجابته على الأسئلة بالعودة إلى النصوص الدينية، ثم يضرب المثال الواقعي من أفعال داعش

كما أن مفهوم أدونيس للإسلام يقترب من رؤية الإسلام السياسي، حيث أنّ كليهما يرى الإسلام دينَ دولة، ولا يمكن أن يكون ديناً فحسب. يقول: "الإسلام ليس ديناً للمعرفة أو البحث أو التساؤل أو الحرية الفردية، إنه دينُ السلطة" (ص61).  

 ويلاحظ القارئ أن أدونيس يطابقُ بين الإسلام وداعش مطابقةً كاملة، فهو يبدأ إجابته على الأسئلة بالعودة إلى النصوص الدينية، ثم يضرب المثال الواقعي من أفعال داعش. يقول: "الإيمان يرتبط بشكلٍ وثيق بالإرهاب" (ص43)، ثم يقول: "لم يعد الدينُ سوى آلة للإبادة، وداعش خيرُ مَن يمثّل تحوُّل الدين إلى آلة إبادة" (ص90). وهو يكرّر أنّ الإسلام لم يتغيّر يوماً، ولن يتغيّر أبداً. ومن أجل إثبات أن داعش هي استمرارٌ للإسلام، بل هيَ عينُ الإسلام وجوهره، يقول: "كانت الفتوحات الإسلامية من أجل الغنائم، واليوم تتمدّد داعش بالطريقة ذاتها إلى مناطق النفط والغاز لكي تغتني منها" (ص22). صحيحٌ أن داعش فعلتْ ذلك، لكن الولايات المتحدة أيضاً تتمدّد في مناطق النفط والغاز لكي تغتني منها، فهل الولايات المتحدة استمرارٌ لإسلام الفتوحات؟ وهل هي نابعة من النصّ المقدّس؟!

العنف والتعذيب:

بينما يتعب المفكّرون ويجتهدون لسنوات من أجل تفسير ظاهرة مثل العنف، فإن أدونيس لا يُتعِب نفسَه أبداً، طالما أنه يملك الجواب الجاهز الواثق من نفسه كلّ الثقة، ومصدر العنف في رأيه هو الإسلام طبعاً. وفي هذا يقول: "العنف كان جزءاً من تأسيس الإسلام" (ص28)، ويضيف أنّ "النصّ المقدّس بالغ القسوة" (ص38)، وأن هنالك "عنفاً نظرياً وعنفاً عملياً في النصّ"، وذلك لأن "العنف جوهريّ في الإسلام" (ص40).

سبقَ للفيلسوفة حنّة آرنت أن اشتغلتْ على مسألة العنف، فرفضتْ ردَّهُ إلى أسباب دينية، كما رفضتْ اعتباره شيئاً جوهرياً في الإنسان بل مُكتَسَباً

سبقَ للفيلسوفة حنّة آرنت أن اشتغلتْ على مسألة العنف، فرفضتْ ردَّهُ إلى أسباب دينية، كما رفضتْ اعتباره شيئاً جوهرياً في الإنسان بل مُكتَسَباً. وهي تردُّه إلى النظام الشمولي بالدرجة الأولى، أو بالأحرى إلى الظروف التي يعيش الفرد ضمنها، بينما لا يذكُر أدونيس عبارة "نظام شمولي" ولا مرةً واحدة في الكتاب. كما سبقَ للأديب ممدوح عدوان أن درسَ هذه الظاهرة في كتابه "حيونة الإنسان"، وقدّم مقاربةً فكرية محترمة تنطلق من نقد النظام السياسي والاقتصادي الذي يُسبّب أزمة الفرد ويجرّده من إنسانيّته، لا مقاربةً ثقافوية خفيفة تُفسّر كلَّ ما يجري اليومَ بنصوصٍ ومقولاتٍ ظهرتْ في القرن السابع! وإذا سلّمنا جدلاً أن أسباب العنف لدينا تعود إلى نصوص الإسلام، فما هي أسباب العنف عند الأنظمة الشيوعية والفاشية؟

أما التعذيب، فيفسّره أدونيس بمقولاتٍ لخلفاء أمويّين يهدّدُون بها خصومهم، وهذه المقولات -التي لم يسمع بها 95% منّا- هي المسؤولة عن التعذيب حتى اليوم (ص49). ثم يُسهب في ذكر أوصاف الجحيم في كتب التراث الإسلامي، مُستدلّاً بها على عنف الإسلام، ومفسّراً بها الفظائع التي تجري اليوم. وفي الحقيقة يمكن لأي شخص أن يجد أوصافاً مشابهةً للجحيم في الموروث المسيحي، أو في "جحيم دانتي" الـمُستَلهَم من أدبيّات الكنيسة. لكنك لن تجد مفكّراً أوروبياً واحداً يفسّر التعذيب في عهد هتلر أو تشاوشيسكو بنصوص دينية من العصور الوسطى، لأنه سيفقد بذلك صفة "المفكّر" وإلى الأبد.

 (يتبع...)

 

كلمات مفتاحية